’’الأمباتي‘‘ أو التعاطف مع الغير وأفخاخه

“أفخاخ الأمباتي” عنوان مُستعار من مقابلة منشورة في عدد حزيران (يونيو) 2017، رقم 293 من مجلّة “العلوم الإنسانيّة” الفرنسيّة، والتي كانت قد خصَّصت ملفّاً عن هذا الموضوع؛ فالـ”أمباتي” L’empathie بالفرنسيّة و empathy بالإنكليزيّة، كلمة تعني “التعاطف مع الغير” أو “تقمّص حالتهم” بمعنى القدرة على وضع أنفسنا مكان الآخرين. وقد طُرحت حوله، في العدد المذكور من مجلّة “العلوم الإنسانيّة”، تساؤلات عدّة، لكن غير مباشرة، أبرزها: لماذا برزت هذه الكلمة / المفهوم في اللّغة الفرنسيّة من عدم، في حين لم يكُن لها وجود منذ نصف قرن؟ ولماذا غدت منذ بروزها في مرتبة القضايا الإنسانيّة الأكثر أهمّية؟ وهل تقتصر أبعادها على النواحي الإيجابيّة فقط؟

بعنوان “?Empathie et bienveillance:révolution ou effet de mode” كتب جان- فرانسوا دورتييه Jean-François Dortier معرِّفاً بأهمّية ما يُشير إليه هذا المصطلح في كلّ مجتمع حيّ، إنسانيّ أو حيوانيّ، مُستنداً إلى آراء علماء نفس وسلوك واجتماع، وشارحاً أنّ غياب “الأمباتي هو علامة على اضطرابٍ في التنشئة الاجتماعيّة”. ولا ينفي دورتييه أهمّية “الأمباتي” التي أضحت في رأيه وفي رأي الطبيب النفسي سيرج تيسّورون Serge Tisseron هي “الموضة”. “فهذه الموضة- والصفات المُقترِنة بها مثل العطف أو تقديم معروف، والدماثة أو الرقّة، والعناية- بات يُمكن قياسها استناداً إلى مؤشّرات أكيدة”، سواء من خلال عدد المؤلّفات التي ظهرت حول “الأمباتي” أم من خلال تردّد ذكر المصطلح في الكُتب الفرنسيّة منذ العام 1950. فـ”الأمباتي” وما يقترن بها من صفات، ولاسيّما التعاطف مع الغير، باتت من متطلّبات الحياة الإنسانيّة، سواء في العائلة أم في المدرسة أم في المستشفى، وحتّى في السياسة، لكونها تجعل الجماعة البشريّة أكثر قابليّة للحياة وأكثر ديمومة. غير أنّ دورتييه يستطلع النواحي المُظلمة لهذا المفهوم. صحيح أنّه بات يشمل حقولاً مختلفة تتخطّى الحقل الطبّي والنفسيّ، مثل حقول التربية والتعليم، والإدارة، والسياسة، إلّا أنّ علماء اجتماع مثل ألآن إيرينبرغ Alain Ehrenberg، عارَض بشدّة فكرة أنّ “الأمباتي” هي شعور طبيعي وعالَمي. ففي رأيه أنّ البشر الجلّادين “يُمكن أن يكونوا أرباب أُسر جيّدين، يحرصون على المقرّبين منهم وعلى أصدقائهم. لكن كلّ ما في الأمر أنّ تعاطفهم مع الآخرين يكون موجَّهاً على أشياء أخرى تنال اهتمامهم”.

أمّا عالِمة الاجتماع الأميركيّة آرلي ر. هوشيلد Arlie R.Hochschild ، الرائدة في سوسيولوجيا العواطف، فتعتبر أنّ “العناية مضبوطة دوماً بقواعد المجتمعي (felling rules أو القواعد العاطفيّة)، فالمحيط والمهامّ المهنيّة تؤطِّر، جزئيّاً على الأقلّ، العواطفَ. هذا هو حال مضيفات الطيران مثلاً، اللّواتي يُفترض بهنّ إبداء اهتمام زائد بالركّاب، والسهر على راحتهم. في حالتهم، لا تكون العناية التي يبدونها خدّاعة بالضرورة؛ إنّها حقيقيّة، لكنّها تكون مأسورة لغاياتٍ تجاريّة في إطار علاقة خدماتيّة جُعلَت طبيعيّة للغاية”. ومن الوجوه المظلمة للتعاطف مع الغير أو للـ”أمباتي” أنّها قد تُضعِف الّذين يمارسونها، شأن المربّي الذي يعمل مع مراهقين في أزمة، أو المُساعِدة الاجتماعية والممرّضة وسواهما من الأشخاص الذين يعملون بجانب أناس في أزمة أو يعانون من صعوبات.

أمّا في الحقل السياسي، وبحسب آراء كثر، فإنّ “الدعوة إلى السخاء والعطف والرأفة حين ترمي إلى تسوية المشكلات الاجتماعية، تؤدّي إلى تنافسٍ بين الضحايا يُمكن أن يكون مصدراً للّامساواة (…) فالمشاعر الجيّدة، لا تصنع دائمة سياسة جيّدة”. إيف ميشو Yves Michaud، الذي يتبنّى أيضاً هذا الرأي “يذكِّر بأنّ التدخّلات الأخيرة للغرب في العراق باسم المبادئ الإنسانية، أفضت إلى تدمير الدولة وعزَّزت انطلاق الإرهاب”.

في الملفّ نفسه، ثمّة عرضٌ لكِتاب Against Empathy “ضدّ التعاطف مع الغير” Contre l’empathie (2016)، لأستاذ عِلم النفس في جامعة يال الأميركيّة بول بلوم Paul Bloom؛ وقد ركّز فيه صاحب المقالة توماس لوبولتييه Thomas Lepeltier على المبرّرات التي جعلت من صاحب الكِتاب مناهضاً لمسألة التعاطف مع الغير؛ ومن أبرز هذه المبرّرات وأهمّها أنّ “الأمباتي” غير مُنصِفة أو غير عادِلة، وأنّ التعاطف مع الغير يجب أن يكون عقلانيّاً، بمعنى أن يقوم الاهتمام بالآخر انطلاقاً من توجيهٍ عقلانيّ يركِّز على إيجابيات أفعالنا الأخلاقيّة وأكلافها. أمّا المثال النموذجي الذي يورده بول بلوم لدعم رأيه، فهو مثال طفل مريض تقوم وسائل الإعلام بعرْض محنته، فيُقدِم الجمهور عندئذ على مساعدته عبر مدّه بتبرّعات سخيّة ليُمنح الأولويّة في المعالجة. في حين تفترض العدالة الحقيقيّة، بحسب بلوم، أن تتوزّع الهِبات بالتساوي بين أطفال عدّة بحاجة إلى المساعدة بدل تقديمها إلى طفلٍ واحدٍ لمجرّد أنّه حظي بمركز الاهتمام. ويتابع: “صحيح أنّ الأمباتي أو التعاطف مع الغير يُمكن أن يُرافق الأفعال الحسنة، إلّا أنّه يُمكنه كذلك أن يقود إلى الفظائع الأسوأ. فالتعاطف الذي نبديه حيال ضحايا أعمال وحشية يُمكنه أن يؤدّي إلى ارتكاب أعمالٍ مُماثِلة ضدّ الذين يُفترض أنّهم مسؤولون عن تلك الأعمال”.

وفي حوارٍ أجراه مارك أولانو Marc Olano في العدد نفسه من مجلّة “العلوم الإنسانيّة” مع سيرج تيسّورون، يشرح الأخير أنّ “الأمباتي” تجاه الآخرين يتمّ بناؤها منذ الطفولة المبكّرة على مراحل ثلاث: “الأمباتي العاطفيّة”، التي تتميّز بقدرة الشخص على تعيين مشاعر الغير؛ “الأمباتي المعرفيّة”، التي تتميّز بقدرة الشخص على أن يضع نفسه فكريّاً مكان الآخر؛ “الأمباتي الراشدة”، وهي التي يبلغها الطفل بعمر يتراوح بين 8 و12 سنة، وهي قدرة الشخص على أن يضع نفسه عاطفيّاً مكان الآخر: “فبهذا الشكل المُكتمِل من الأمباتي، تتحّد المركّبات العاطفية والمعرفية”. وحين أعطى تيسّورون مثالاً عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتبيان كيف قام الأخير باستخدام الدعاية الانتخابيّة من أجل إقناع الناخب الأميركيّ الشعبيّ بأنّه- أي ترامب- يشعر بأوجاعه وأنّه يُقاسمه هذه الأوجاع، أراد بذلك التشديد على “مَيلنا إلى اختزال الأمباتي إلى بُعدها العاطفي. في حين أنّه بإمكاننا، وكما بيّنت حملة ترامب، أن نعمل عبر استخدام الأمباتي المعرفيّة في الوقت الذي نكون فيه في صدد إقناع الآخرين بأنّنا معنيّون عاطفياً بهم، وهو ما ليس صحيحاً”.

أمّا عن الخوف من أن تختفي “الأمباتي” من الوجود، فيجيب تيسّورون “أنّها لا تختفي أبداً، لأنّها قدرة طبيعيّة لدى الكائن البشري. غير أنّ الخطر يكمن في أنّها باتت تُمارَس بشكل أقلّ في سياق العلاقات الإنسانية المُتبادَلة. وهذه التبادليّة هي التي تبدو لي مُهدَّدة اليوم (…) نحن نشهد ميلاً عامّاً إلى الانطواء الجماعاتيّ؛ بحيث تنحصر الأمباتي أكثر فأكثر في حدود الأشخاص المنتمين إلى المجموعة نفسها”.

الملفّ الغنيّ إذاً بالموادّ (من مقابلات، وعروض كُتب ومقالات) التي تعرِّف بـ”الأمباتي” من نواحٍ مختلفة، لم يجرّد المفهوم من قيمته الإنسانية ومن ضروراته وأهمّيته في حفظ العلاقات الإنسانية وصونها؛ لكنّه في استعراضه تحفّظات خبراء مثل تيسّورون وغيره من المختصّين، حذّر من التضليل السياسي، وربّما الإعلامي والديني الأصولي والإداري..، الذي يُمارَس باسم “الأمباتي”. تضليل وسيلته التلاعب بالأفكار والعواطف من أجل مصالح خاصّة، إيديواوجيّة، تجاريّة، إعلاميّة…إلخ؛ بحيث لا يُمسي خلاص الإنسان وما يرافقه من قيَم إنسانيّة هو الغاية في حدّ ذاته، بل الادّعاء بأنّ هذا المفهوم أو ذاك يحمل حلولاً مُرضية للإنسانيّة جمعاء، فيما تكون مؤشّرات الواقع حقيقةً في صدد الإشارة إلى أنّ الترويج لهذا المفهوم أو ذاك ليس إلّا تداولاً استهلاكياً أو “موضة” – كما وصفها البعض- لا تجلب المنفعة إلّا لأصحاب الخطاب الترويجي هذا، إلى أيّ بلد أو دين أو إتنية انتموا.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسّسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى