بلا حدود

الأمة السورية وخصائص المجتمع السهل الممتنع في ضوء الواقع المعاصر

ماهر عصام المملوك

تُعدّ الأمة السورية من أقدم الأمم التي ساهمت في تشكيل مسار الحضارة الإنسانية. فمنذ فجر التاريخ، شكّلت سوريا ملتقى الحضارات، ومهد الأديان، ومحور التفاعل الثقافي في المشرق العربي. وهذا التراكم الحضاري العميق انعكس على طبيعة المجتمع السوري، الذي يتّسم بسِمَة فريدة تُعرف بـ”السهل الممتنع”؛ أي أنه يبدو بسيطًا في مظهره، لكنه معقّد في جوهره.

المجتمع السوري يملك مزيجًا نادرًا من الصفات: دفء العلاقات، التمسك بالقيم، والمرونة في التكيّف مع التغيرات. إلا أن هذه الخصائص، التي شكّلت في الماضي عنصر قوة واستقرار، وُضعت اليوم أمام اختبار قاسٍ بفعل الصراعات التي عصفت بالبلاد منذ عام 2011.

فالحرب السورية لم تكن مجرد نزاع سياسي، بل زلزالًا اجتماعيًا وثقافيًا هزّ بنية المجتمع وأعاد تشكيل كثير من ملامحه.

رغم الانقسامات الحادة التي ظهرت على أسس طائفية أو سياسية، حافظ جزء كبير من السوريين على وعيهم الوطني العميق، واستمروا في التعبير عن رغبتهم بالعيش المشترك، متسلّحين بالإرث الحضاري الذي يُمكّنهم من تجاوز المحن. هنا تتجلى ميزة “السهل الممتنع”: مجتمع يبدو ممزقًا، لكنه يحتفظ بروح واحدة تتجلّى في التفاصيل اليومية؛ في لهجة محكية توحد رغم الجغرافيا، وفي ثقافة مقاومة تنبض في الفن، والشعر، والسخرية الذكية.

الشتات السوري شكّل بدوره وجهًا جديدًا للمجتمع؛ ملايين السوريين في المهجر ينقلون معهم ملامح هذا “السهل الممتنع”، يبنون في الغربة جسورًا من الذاكرة والانتماء، ويعيدون تشكيل الهوية في ظروف قاسية، دون أن يفقدوا صلتهم بالأصل.

اليوم، وفي ظل كل التحديات—من انهيار اقتصادي، وتفكك مؤسساتي، وغياب أفق سياسي واضح—لا يزال السوريون يثبتون قدرتهم على البقاء، لا من خلال الخطابات الكبرى، بل عبر ممارسة الحياة اليومية بإصرار هادئ. إنهم لا يرفعون شعارات فارغة، بل يتشبثون بما تبقى من إنسانيتهم، مستحضرين تاريخًا طويلًا من التحولات والانبعاثات.

إن فهم المجتمع السوري في واقعه المعاصر يتطلب قراءة مزدوجة: قراءة تلتقط بساطة المظهر، وقراءة تنفذ إلى عمق المعنى، حيث تتفاعل الذاكرة مع الحاضر، ويتحوّل الألم إلى وعي، والتحدي إلى فرصة لإعادة صياغة الذات.

إن الأمة السورية، برغم ما مرّت به من أزمات وصراعات، لم تفقد بوصلتها الحضارية، ولا قدرتها العميقة على التشكل من جديد. فالمجتمع السوري، بسِمته “السهل الممتنع”، لا ينهار كما قد يتخيل البعض، بل يتخفّى مؤقتًا، يعيد ترتيب أولوياته، ويستعد بصمت للمراحل القادمة.

المستقبل السوري لن يُبنى فقط بالسياسة أو المعادلات الدولية، بل سيتشكل من رحم هذا المجتمع الذي عرف كيف يواجه الموت بالحياة، والانهيار بالإبداع، والتشظي بالتماسك الإنساني. ما دامت هناك ذاكرة تحفظ قيمة التعدد والتعايش، وما دام هناك جيل جديد يتعلم من أخطاء الماضي دون أن يرث أحقاده، فإن سوريا قادرة على استعادة عافيتها، وإن طال الزمن.

في النهاية، تبقى الأمة السورية مثالًا على مجتمع لا يُختزل بشعارات، ولا يُفهم بمعايير سطحية. هو مجتمع ينهض دائمًا من عمق الألم، ويُدهش العالم بقدرته على العبور. وإذا كان الحاضر مشوبًا بالغموض، فإن التاريخ علّمنا أن سوريا ليست فقط بلدًا يعيش فوق أرض، بل فكرة حيّة تعبر الزمن، ومجتمعًا يختزن في بساطته كل مقومات النهضة إذا أُتيحت له الفرصة.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى