
مع أفول العولمة وسياسة سيطرة الهيمنة الشعبوية تشهد الساحة الدولية اليوم تحولات جذرية تهدد النموذج الليبرالي المتعدد الأطراف الذي تميّز العقود الأخيرة من العولمة.
فمع تصاعد الأزمات الاقتصادية والسياسية، بدأت تظهر بوادر ما يُمكن تسميته «الحرب الاقتصادية العالمية»؛ صراع جديد يقوم على إعادة رسم موازين القوة التجارية والمالية بين الدول الكبرى، تحت شعار حماية السيادة الوطنية وأولويات الشعوب. وفي قلب هذا الصراع يكمن أفول العولمة وسيطرة سياسات الهيمنة الشعبوية، ما يعكس تحوّلاً عميقاً في عقلية القيادة السياسية ورؤيتها للعلاقات الدولية.
أسباب أفول العولمة
جاءت أثناء وبعد جائحة كورونا في 2020 لتكشف هشاشة سلاسل الإمداد العالمية وحساسية الاقتصادات الوطنية للصدمات الخارجية. تبعتها أزمة الطاقة والغذاء، مع تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا في عام 2022، فبرزت الحاجة إلى «الاكتفاء الذاتي» وتقليص الاعتماد على أسواق وموارد الدول الأخرى.
في الوقت نفسه، تكشفت الفجوات الكبيرة في توزيع الثروات، سواء بين الشعوب أو داخل المجتمعات نفسها، ما غذّى غيظاً شعبياً ضد النخب السياسية والاقتصادية المتواطئة، تحت وعود بالعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة.
نعود إلى ظاهرة صعود الشعبوية والهيمنة الاقتصادية فلقد استفادت التيارات الشعبوية في أوروبا وأميركا اللاتينية والولايات المتحدة من هذا الغضب؛ فتصدّت لعقود من السياسات الليبرالية التي ربطت الرفاهية بتدفق السلع والاستثمارات العابرة للحدود. وبدلاً من السعي إلى تحرير الأسواق، تبنت إغراءات «الحماية والتفضيل الوطني»، ففرضت رسوم استيراد عالية، وتبنت حزم دعم صناعي لم تشهدها أكثر من نصف قرن. هذه التدابير لم تبقَ محصورة في المجال الاقتصادي، بل امتدت إلى تقنيات الاتصالات والتكنولوجيا، حيث انطلقت سباقات محمومة للسيطرة على شبكات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، باعتبارها أدوات أساسية للهيمنة في القرن الحادي والعشرين.
اما عن آليات الحرب الاقتصادية في هذه الحرب، فقد تحولت العملات إلى سلاح واستُخدم الدولار للضغط على الخصوم عبر عقوبات مالية، وتدخلات نقدية مباشرة في أسواق العملة. كما باتت أداة الاستثمار المباشر غير ودية، حين تستحوذ شركات عملاقة على شركات استراتيجية في الدول الأضعف، وتفرض شروطاً تمسّ بقدرتها على اتخاذ قرارات سيادية. والأهم من ذلك، توسعت شبكة العقوبات الاقتصادية لتشمل القطاعات الحيوية كالصناعات الدفاعية والاتصالات والطاقة، محوّلة الاقتصاد إلى ملعب للتصادم السياسي.
فالانعكاسات التي طبقت على الاقتصاد العالمي أفضت هذا التحول وإلى تباطؤ حادّ في نمو التجارة الدولية، وتراجع الاستثمارات العابرة للحدود، وزيادة تكاليف الإنتاج والصادرات. ومع تنامي الحواجز الجمركية وحواجز الاستثمار، بدأ تتبلور «عوالم اقتصادية متوازية»، تُقوّض فكرة السوق الواحدة. كما أن الانقلاب على مبادئ الشفافية وتحرير التجارة أدى إلى ارتفاع تكاليف المعاملات وتشويه الأسعار العالمية للسلع الأساسية.
وبينما تحاول الدول النامية التكيّف مع النظام الجديد عبر ترسيخ شراكات إقليمية ودعم الصناعات المحلية، تبدو الصورة غير واضحة للمدى البعيد. فإما أن يستمر التنافس على أشده، مع خطر تصعيد الصراعات لتشمل أبعاداً عسكرية وسيبرانية، أو تنجح مبادرات للعودة إلى ترتيبات تجارية أكثر انفتاحاً، لكن بشروط جديدة تحمي السيادة الوطنية وتضمن اشتراكاً أوسع في العائدات. وفي كلتا الحالتين، فإن نهاية عصر العولمة كما عرفناه تبدأ بنقاشات حول مفهوم «الأمن الاقتصادي» وأولويات الشعبوية التي لا تؤمن إلا بآليات السيطرة والهيمنة المباشرة.
في الختام، يمكن القول إن الحرب الاقتصادية العالمية ليست معركة معزولة، بل نتاج طبيعي لتراجع الثقة في النظام الدولي الجديد ومؤسسات العولمة وسياسات التحرير التجاري، حيث تتصاعد الرغبة في حماية الهوية الوطنية والأمن الاقتصادي.
ومع بزوغ عصر جديد يختزل العلاقات الدولية إلى صراعات المصالح المباشرة، يبدو أن القدرة على التكيف وإعادة التفكير في نماذج التعاون ستكون العامل الحاسم في تحديد شكل النظام الاقتصادي العالمي المستقبلي.
ويبقى مستقبل العالم غير واضح المعالم في ظل الهيمنة الدولية الشرسة .!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة