الأمن الغذائي العربي: السلاح قبل الرغيف (كرم الحلو)

 

كرم الحلو

الازمة المالية العالمية في اواخر العقد الاول من القرن الحادي والعشرين أدّت الى تراجع الامن الغذائي في العالم العربي، وقد تعاظمت تداعياتها على الساحة الاقتصادية والاجتماعية العربية في السنوات الاخيرة، حيث بلغت الفجوة الغذائية نحو 59,4 مليار دولار نهاية العقد الاول من القرن المذكور بعد أن كانت 14,8 مليار في بدايته، وما زال انتاج الحبوب دون نصف الاستهلاك على المستوى العربي، فقد قدر مؤشر الاكتفاء الذاتي بنحو 49,3 في المئة العام 2009. في الوقت ذاته تجاوزت البطالة الـ 16 في المئة، وبات 39,9 في المئة من العرب في عداد الفقراء في نهاية العقد الماضي، وهي نسبة مرتفعة جداً قادت الى حالة من عدم الامان الاجتماعي، قاد بدوره الى الاحتجاجات الشعبية والثورة على الانظمة، وقد ظهرت هذه الملامح واضحة في انتفاضات مصر وتونس واليمن وغيرها.
لم تكن ازمة الامن الغذائي مسألة طارئة، بل هي متأصلة في العالم العربي نتيجة الركود والتباطؤ في استجابة الموارد للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وعدم كفاءة السياسات في معالجة الصدمات الحاصلة في أسواق الغذاء، فضلاً عن المنهج القطري في التنمية.
إزاء هذه الازمة المتمادية يطرح سالم توفيق النجفي في «سياسات الامن الغذائي العربي، حالة الركود في اقتصاد عالمي متغير» مركز دراسات الوحدة العربية 2013 رؤيته للمستقبل، فيبحث في نمط السياسات التي ادت الى ظاهرة ارتفاع اسعار الغذاء خلال العقود الماضية وآليات حدوثها، ويتطرق الى مضمون وفلسفة المتغيرات التي قادت الى تلك الحالة غير المسبوقة في العالم العربي.
في رأي المؤلف، من الصعب اعتبار العوامل الخارجية من دون نظيرتها الداخلية، أصل الإشكال في ازمة الامن الغذائي العربي، فنمط السياسات الاقتصادية وتشوّهاتها، وغياب الديموقراطية واستشراء الاستبداد، عوامل أنتجت مجتمعة حالات من البؤس والحرمان والفقر والجوع وانعدام الامن الغذائي. وقد أشارت الدراسات المقارنة بين انتاجية العمل الزراعي العربي ونظيره في الاقتصادات المتقدّمة الى ان هناك فارقاً كبيراً بينهما، ولا شك في أن جزءاً من هذا التباين يعود الى نمط السياسات الزراعية في العالم العربي، فضلاً عن هدر الموارد والطاقات، حيث يتعرض 52 في المئة من الموارد المائية للهدر، بينما يشوب الزراعات المطرية قدر كبير من المخاطرة واللا يقين. فضلاً عن ذلك يذهب شطر كبير من الموارد العربية على استيراد السلاح، فقد حلت خمسة بلدان عربية بين اكبر 21 دولة مستوردة للسلاح في البلدان النامية في نهاية العقد الاول من هذا القرن، ما ترتب عليه الانصراف عن الحاجات الاساسية مثل الاسكان والصحة والتعليم والغذاء، وبذلك واجهت هذه البلدان مستويات مختلفة من انعدام الامن الغذائي.
لقد أدّت اتفاقية سايكس – بيكو العام 1916 الى تعميق الاتجاهات القطرية وحالت دون تطوير الموارد في صورتها التكاملية، فيما ورثت الزراعة العربية تشريعات السلطنة العثمانية التي ركزت البنية الحيازية في غير مصلحة المزارعين الصغار، ما رتب علاقات غير متكافئة بين العمل والأرض. واذا كان الانتاج الزراعي قد شهد توسعاً تحت الانتداب الاجنبي، إلا أنه لم يحسّن الامن الغذائي العربي، لان التوسع كان استجابة للطلب في الصناعات الاوروبية. ولم تؤد قرارات الإصلاح الزراعي وتأميم الأصول الوطنية الرأسمالية في الخمسينيات والسبعينيات الى تحسين اوضاع الفئات الفقيرة وتوفير حاجاتها الاساسية، اذ عادت الاراضي الموزعة على الفلاحين الصغار الى كبار المزارعين بصورة استئجار او محاصصة للناتج الزراعي، فيما اتخذ التأميم في القطاع الصناعي والمصرفي صيغة «ملكية الدولة».
ولم تكن العوامل الرأسمالية الخارجية في صيغتها النيوليبرالية المتوحشة أقل وطأة على انعدام الامن الغذائي العربي، فقد أدى ارتفاع اسعار الغذاء عالمياً الى تزايد الفجوة الغذائية العربية التي ارتفعت من 24,9 مليار دولار الى 29,8 مليار دولار في العام الأول للازمة الاقتصادية التي بدأت العام 2008، الامر الذي انعكس على تراجع القدرة الشرائية في البلدان الاقل نمواً، في ظل عدم التكافؤ بين إنتاج الغذاء واستهلاكه، ففي العام 2009 بلغ استهلاك العرب من الحبوب 111,29 مليون طن، في حين أن الإنتاج لم يتجاوز 52,55 مليون طن.
إن انعدام الامن الغذائي العربي سيقود الى اختلال في التوازن الاجتماعي، وهذه المسألة تنتج مخاطر اقتصادية واجتماعية معقدة بعيدة الامد، ما يتطلب معالجات جدية تذهب الى الأسباب الفعلية للأزمة ولا تقف عند مظاهرها فقط، وفي مقدمة هذه المعالجات البحث عن صيغة لسياسات عربية تسعى نحو خفض تلك المخاطر او استبعادها، ان المعطيات التي توصل اليها المؤلف تؤكد تنامي حالات التشاؤم باتجاه تداعي انعدام الامن الغذائي، وارتفاع اسعار الغذاء، رغم حصول قدر من التراجع في معدلاته، ويجب ألا تعتمد البلدان العربية منخفضة او متوسطة الدخل على المعونات الغذائية، لأن منح تلك المعونات مرتبط من ناحية بالأسعار العالمية للسلع، ومن ناحية أخرى بمدى التزام البلدان العربية المتلقية للمعونة بالسياسة الليبرالية للدول المانحة، الأمر الذي يزيد مخاطر الأمن الغذائي، فضلاً عن مخاطر الامن القومي. وهذا يشير إلى احتمالات سيادة أزمة من نوع جديد يكون فيه انعدام الامن الغذائي ومخاطره أحد معطيات الوضع الاقتصادي العربي القائم.
من هذا المنطلق يطرح المؤلف السؤال التقليدي: ما العمل؟ ليخلص إلى ان البلدان العربية تحتاج الى مشروع نهضوي شامل من أجل الوصول الى الدولة ـ الامة العربية في زمنها الحديث. اما متضمنات هذا المشروع فقد طرحت من قبل بعض حكماء الامة ومفكريها من خلال نشاطات مركز دراسات الوحدة العربية بعد مسار طويل من البحث والدراسة، وهي تتلخص في التوجه نحو اقتصاد يأخذ بالاعتبار مسألة التنمية البشرية والإنسانية وإزالة الفقر والبؤس في المجتمع العربي، والخروج من دائرة الركود الى التغيير الديناميكي في النشاطات العربية المختلفة التي يُعدّ الاقتصاد جزءاً منها. بعبارة أخرى، تصعب معالجة الأمن الغذائي العربي بصورة منفردة، ولهذا أصبح خيار المشروع النهضوي العربي الشامل مسألة حتمية ان كان الهدف هو تحقيق الأمن الغذائي العربي.

سالم توفيق النجفي «سياسات الأمن الغذائي العربي، حالة الركود في اقتصاد عالمي متغيّر ـ رؤية للمستقبل».
مركز دراسات الوحدة العربية 2013، 238 صفحة.

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى