الأموات يحكمون لبنان؟ (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

 

I ـ البحث عن الدولة

سؤال الخيبة الدائم: «أي ثقب في لبنان، نخرج منه إلى الأمل بالتغيير؟» لا أحد بعد الطائف أشار بإصبعه إلى الطريق. لا أحد دلنا على أن نهاية النفق «هناك» أو ما بعد «هناك»؟ في عشر سنوات؟ في عشرين؟ في زمن ما؟ لا أحد تجرأ بعد على التأكيد، بأن لبنان سيتغير. أي سيخرج مما كان عليه، مما هو فيه، مما ينتظره.
جواب الخيبة الدائمة: هذا هو لبنان، كما أعطي لكم وكما «عرفتم وذقتم». خذوه كما هو، تعاملوا معه كما هو. حطبه، خشب خلاصكم المؤقت وخشب حريقكم واشتعالكم. لا إضافة لوصف مآلات اللبنانيين، وانغلاق نظامهم، وانعدام الحلول الخلاصية، ولو بعد سنوات يبدأ تعدادها من الآن… منعا من ذلك كله، وقد بات واقع لبنان الراهن، معروفاً ومعلوكاً ومضجراً، ومحفوظاً على كل شفة ولسان.
نحاول النظر من ثقب الطائف الذي، كما قيل، يتضمن فصلين مستقلين: الفصل الأول، ينهي حالة الحرب بين اللبنانيين، يجمع فيه السلاح، تحل الميليشيات، إقرار تعديلات دستورية تطبيقاً للإصلاحات… الفصل الثاني، يتطلع إلى لبنان الآخر، أو لبنان الثاني، أو لبنان الجديد حقاً، الذي يقطع مع أسباب الحروب الداخلية، وينتقل بجد وكفاءة، من دولة «الدول الطوائف» إلى دولة مدنية عصرية تلغى فيه الطائفية وتستقيم الديموقراطية وتسلم آليات انتقال السلطة وتنجح المؤسسات المحصنة بالقوانين، وتصبح الإدارة حزب خدمة المواطن والدولة، من دون وسيط سياسي أو خط عبور الزامي بالطوائف.
انه فصل مؤكد بالنص الذي ناقشه «نواب الأمة» وأقروه ورفعوه إلى منزلة المقدس، ولكنهم لم ينفذوه. كأن من كتبه، كان من جنس الملائكة ومن قام بتنفيذه، أو، عفواً، بعدم تنفيذه، هو من جنس الأبالسة… وهم بيننا اليوم، وكانوا بيننا بالأمس، وسيكونون معنا غداً، حتى نهاية لبنان.

II ـ النظام الطائفي الأقوى

كثرت الأقاويل، في فترة انعدام الرئاسة اللبنانية، وانسداد الطرق إلى انتخاب رئيس جديد، مقولة عرجاء: انتهى النظام. وهذا حكم تعسفي، يطلق جزافا، علماً أن الشواهد، تؤكد على أن الحي الوحيد فينا، هو هذا النظام، الذي يستمد حياته، من موت الأمل وفقدان الحل أولاً، والذي تتنطح القيادات الراهنة كلها، من دون استثناء، للدفاع عنه، وهي تكيل له الاتهامات الغليظة.
حاولت قوى متضررة من الانسداد المؤقت، فتح نافذة صغيرة، يطل منها اللبنانيون إلى «مؤتمر تأسيسي»، يعيد صياغة اللبنانيين في عيشهم وسياستهم وتشاركهم في السلطة. ووجهـت هذه النـافذة بتهمة شنيعة جداً، هي تهمة الانقضـاض على الـطائف لتغييره، أو لتعديـل الموازيـن فيه، أو لاستعادة الصلاحيات، أو لتطبيق المثالثة. وكل ذلك زندقة… فالطائف قد تم «الانقلاب عليه»، وفق ما كتبه النائب السابق البير منصور. من زمان، ولا تزال مفاعيل الانقلاب حية ترزق، اضافة إلى التنكر الدائم، للفصل الثاني من الطائف، الذي من المتوقع أن يغيِّر لبنان.
النظام اللبناني، المستند إلى شرعية طائفية، هو أقوى من الأنظمة الملكية السائدة والمستقرة، على مضض شعوبها. وهو أقوى من أنظمة الاستبداد العسكرية والعقائدية المدجـجة بأساليـب الأمن والقتل والاعتقال والتعذيب والنفي. وهـو أقوى من الأنظمة العربيـة جميـعهـا، التي حـاول الربـيع العربي تبديلها، فبدلته وجعلته محرقة عربية بلا هوادة.
هذا النظام محصَّن، لانعدام القوى البديلة، كقوى التغيير الجذرية. فالأحزاب، رحمة الله عليها، حية برغم موتها السريري. ولفقدان نصاب القوى السياسية المؤمنة حقاً بأن اتفاق الطائف، هو خشبة الخلاص، كما شاءه صانعوه، وكما تنكر له كاتبوه ومنفذوه.
لبنان، ينجو بالفصل الثاني من الطائف. ويهلك إذا ظل الباب مقفلاً، وقام الجميع بسد الثقب، أو بفقء عينيه، كي لا يرى، ما هو مرئي جداً…
الفصل الثاني من كتاب الطائف، هو الحجر الذي رذله البناؤون. ولاستقامة المعنى السياسي. تستبدل كلمة «بناؤون» بـ«هدامون».

III ـ أقوال مأثورة

قال بطرس حرب ما يلي:
«إن ما نقوم به اليوم هو عمل تاريخي كبير، فعلى نتائجه يترتب مستقبل نظام لبنان ونفتح أبواب الأمل في أن يستعيد لبنان سلامه ووحدته وسيادته… (لقد) حوّلنا لبنان ونظامه من نظام قائم على الأشخاص والطوائف إلى نظام قائم على المؤسسات والقانون».
هذا قول حسن. لكن الفعل كان باطراد، على العكس منه. فمن المسؤول؟
وقال نصري المعلوف ما يلي:
«الدولة أرض وشعب ونظام ينفذ القانون. قوة القانون ان ينفذ بالقوة. وأظن، أنه آن الأوان ان تصبح الدولة أقوى مؤسسة كي تزول الدول الصغيرة، ان يسلم الإنسان في لبنان».
وهذا قول حسن. لكن خرق القانون بالقوة، هو القاعدة. قوة الطائفية ساحقة للقوانين والدساتير والقضاء والأمن والدولة. لا يسلم الإنسان ولبنان ما دامت القوة الضاربة في الدولة، بيد الطوائفيات، فمن المسؤول؟
وقال خاتشيك بابكيان ما يلي:
«إن وثيقة الطائف في ما تهدف إلى أهداف سامية في طليعتها انهاء الحرب في لبنان وإرساء الوفاق بين أبناء الوطن الواحد، (إنما) هناك فصل كامل واسع شامل يتعلق بحقوق المواطن في مفهوم الدولة الحديثة، الا وهي الحقوق الاجتماعية، وهي تشكل العمود الفقري لكل دستور حديث. من هذه الحقوق، هل لي أن أذكر الحق في العمل، أو الوظيفة العامة، الضمان ضد البطالة، الحق في السكن، كي لا يبقى المواطن شريداً في وطنه، ثم الحق في التربية والتعليم… الخ».
هذا قول لا فضّ فوه قائله، إنما، ماذا جنينا منه، غير المرارة؟ فمن المسؤول؟

IV ـ نصوص مأثورة

لبنان الطائفي، أزمة متفاقمة أبداً. اتفاق الطائف رسم خريطة طريق، للبنان اللاطائفي، ليصبح دولة طبيعية. قال نجاح واكيم تعليقاً على ما ورد في اتفاق الطائف ما يلي:
«أعترف بأنني واحد من الذين استسلموا لسلام الطوائف لا إلى حربهم. وسـلام الطوائـف يقـود دائماً إلى الحرب… أهم ما يمكن ان نقوم به، هو الانطلاق بهذه الوثيقة في اتجاه الالغاء السريع للطائفية، تلبية لرغبات الشعب اللبناني بأكمله. لأن هذا الشعب يعلم أن كل قتيل قتل، وكل بيت دمر، وكل طفل حرم من المدرسة كان ذلك بسبب الطائفية».
هذا نص للتذكير، وهو قول مبني على ما يلي:
«لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز وتفضيل».
جميل جدا، نص دستوري ناصع وحاسم… ولبلوغه، نصت المادة 95 على ما يلي: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيـين اتخـاذ الاجـراءات الملائـمة لتحـقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطـة مرحليـة وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.
مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية».
ونصت المادة 22 على ما يلي: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، يستحدث مجلس شيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية (حسنا فعل المشترع بأنه لم يذكر الطوائف) وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».
هذه هي خريطة الطريق للبنان الثاني:
أولا: إجراء انتخابات على قاعدة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، لطمأنة الجميع. ولقد حصل ذلك في العام 1992، أي منذ اثنين وعشرين عاما.
ثانيا: هذا المجلس المنتخب على أساس المناصفة، عليه اتخاذ الاجـراءات الملائـمة لتحـقيق الغاء الطائفية السياسية. وهذا لم يحصل. فقد تخلف نواب ذلك المجلس، والنواب الذين فضلوا الإقامة في الأحضان الطائفية، في المجالس المتناسلة طائفياً حتى اليوم.
ثالثاً: إنشاء مجلس شيوخ، تتمثل فيه العائلات الروحية، بصلاحيات محددة بالقضايا المصيرية، من دون السماح لها بالاهتمام بالقضايا السياسية، التي هي من اختصاص السياسيين المنتخبين على أساس قانون انتخابي غير طائفي.
رابعاً: إلغاء طائفية المجالس والادارات. وتوحيد قواعد وقيم المجتمع المدني، المنسجمة مع «لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية… الخ».
خامساً: إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي.

V ـ أفعال سوء

الذين تولوا إدارة البلاد، منذ العام 1992، مسؤولون عن عدم تطبيق الدستور. رؤساء الجمهورية كلهم مسؤولون. رؤساء الحكومات بلا استثناء مسؤولون. الوزراء كلهم مسؤولون، رئيس مجلس النواب، الذي حاول ملوحاً، من دون جدية، مسؤول أيضاً، مجالس النواب كلها مسؤولة. الأحزاب والتيارات الطائفية والعلمانية والمدنية، مسؤولة. الشعب اللبناني الذي يتهافت في كل مناسبة، لتأييد وانتخاب هؤلاء، مسؤول كذلك.
باختصار: خريطة الطريق موجودة. ولكن لا أحد يريد أن يسلك طريقها. ووفق ما قاله لي الرئيس الحسيني، إن الاتفاق مع البطريرك صفير كان يقضي أن يبدأ تنفيذ هذه المواد الدستورية لإلغاء الطائفية السياسية، بعد ستة أشهر من انتخاب أول مجلس نيابي منتخب على قاعدة المناصفة. مرت الشهور الستة، ثم السنوات الست، وقد نصل إلى العقود الستة، ليموت النص، كما مات نص المادة 95 القديمة التي كانت قد نصت على: «بصورة موقتة والتماساً للعدل تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة، دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة». هذه المادة ظلت موقتة طوال الأبد الاستقلالي حتى ما بعد الحرب اللبنانية.
هذه الطبقة السياسية المزمنة، تتعامل مع الدستور، على أنه ميت.
من يحكم لبنان؟
كيف يحكم لبنان؟
إلى متى يظل لبنان، نموذجاً لأسوأ الديموقراطيات؟
إلى متى يبقى اتفاق الطائف الحقيقي، بنصوصه وفقراته، ممسحة لأقوال الساسة اللبنانيين؟
من يدل اللبنانيين على ثقب يرون من خلاله أملا؟
لا أحد. كأن هذا البلد محكوم بمومياءات طائفية عاتية، تستعمل أدوات الموت المعنوي والمادي، للاستمرار في الحياة. وطن حي يحكمه اموات.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى