الأميركيون والطموحات الفرنسية المحبطة

 

هل تذكّرنا مبادرة إيمانويل ماكرون في العام 2020 بمحاولات نيكولا ساركوزي في العام 2008؟ وهل ستؤول الأولى إلى ما آلت إليه سابقتها؟

سؤال مشروع شغل الكثيرين، وقرأنا آراء مختلفة حوله، لكنّ المنطق يذهب إلى جملة تشابهات وافتراقات، منها ما يتعلق بشخص الرجلين، ومنها ما يتعلق بطبيعة المرحلة والمتغيرات، ومنها ما يتعلق بثوابت سياسية وجيوبوليتيكية لا يمكن لأي اختلافات أن تخرج عليها.

بدايةً، ساركوزي هو رجل اليمين الذي زايد على أقصى اليمين، ورجل الأميركيين الذي أدخل فرنسا إلى الأطلسي، كاسراً عناد كلّ من سبقوه من رؤساء فرنسا، ورجل اللوبيهات المالية، ورجل الأميركيين والأيباك الّذي زاره مرشحاً لنيل بركة الدعم.

أما إيمانويل ماكرون، فهو لا يختلف بكونه رجل اللوبيهات المالية التي عنونت “لوموند ديبلوماتيك” يوم فوزه بأنها “صنعته ليخدمها”، ولكنه أكثر وسطية، وأكثر فرنسية وأوروبية، وأقل أطلسية من سابقه، ما يترجم عودة السياسة التي انتهجها إلى خط الاستقلالية الأوروبية التي حاول إعادة بنائها مع أنجيلا ميركل، ويفسر اندراجه في خط الحمائية الوطنية التي ينتهجها كل من دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في وجه عولمة غربية آيلة وعولمة صينية مقتحمة، ويفسر أيضاً اندراجه في حرب البحار والموانئ – وخصوصاً الموانئ – التي يقودها وزيره جان إيف لودريان، غير أن الحمائية لا تعني أبداً البعد عن الروح الإمبريالية، بمعنى تحقيق المصالح الوطنية على حساب الغير. وكما في سياق العولمة، يهيمن القوي على الضعيف، ويحوله إلى مجرد خادم ومستهلك، ففي الحمائية أيضاً، يحمي القوي نفسه واقتصاده ومصالحه على حساب الأضعف.

هكذا اختلفت المرحلة: لم تعد الولايات المتحدة سيدة العالم المعولم الوحيدة، وبات هامش المناورة أوسع أمام أوروبا والقوى الأخرى المتوحدة أو الصاعدة، ولكن هل يعني ذلك أنَّ الولايات المتحدة ستترك الدولة الأولى عسكرياً في أوروبا تحقّق اختراقات منفردة على مستوى البؤر المستهدفة، ومنها الشرق الأوسط والمتوسط؟ وبالتالي، هل يمكن أن يتحرك الفرنسي إلا ضمن هذه الحسابات؛ حسابات لا يمكن فصلها عن حسابات المصالح الإسرائيلية في منطقتنا؟!

وبشكل أكثر دقة، هل يمكن أن يعود ماكرون إلى الديغولية التي كانت تعتبر أن المتوسطية بديلة الأطلسية كعنصر قوة، وأن تحالف الحضارات الألفية سيشكل سداً في وجه الحضارة الهجينة التي تشكلها الولايات المتحدة، أو أنه سيحتفظ بالمقولة التي تبنّاها ساركوزي من أن قدر أوروبا أن تمدّ جسدها، فإذا رجلاها في المتوسط وشعرها في الأطلسي، وذاك ما ترجمه بإدخال بلاده إلى الأطلسي، وإطلاق مشروع الاتحاد لأجل المتوسط؟

ومن جهة ثانية، هل يمكن لماكرون أن يعود إلى سياسة التوازن إزاء “إسرائيل” أو أن ذلك أصبح من الماضي، لصالح انحياز تتوّجه الدول العربية نفسها، وأحدثها الإمارات والبحرين، حيث لفرنسا قاعدتان عسكريتان أساسيتان، وحيث التحالف مع الأولى في ليبيا يشكل سداً في وجه تركيا في المتوسط؟

لعلّ العودة قليلاً إلى الماضي تساعد أحياناً في فهم الحاضر، مع أخذ المتغيرات والتحولات بعين الاعتبار.

في مقال نشرته “لوموند” في العام 2007، أكد باحثان مقربان من ساركوزي أن الأخير هو الذي أقنع جورج بوش بأن يترك له تدبر أمر الملفين اللبناني والسوري، وفق أهداف مشتركة معروفة: احتواء سوريا، فك تحالفها مع إيران، استبعادها منظمات المقاومة على اختلافها، اللبنانية والعراقية والفلسطينية، ما يقتضي أولاً التدخل في لبنان لمنع انتخاب رئيس جمهورية صديق أو حليف للمقاومة، والإتيان برئيس مطلوب سعودياً – أميركياً – فرنسياً (وضمناً إسرائيلياً) تحت ستارة التوافق والحياد، فحلّ برنار كوشنير ضيفاً شبه مقيم في بيروت، كما يذكر الجميع، ولعب لعبة الدبلوماسية الشعبية التي يبدو أنها فن الفرنسيين (من عرس كوشنير إلى جولة ماكرون في الأحياء)، وفي جيبه اسم واحد لا نقاش حوله: ميشال سليمان.

ومن يتابع تسلسل الأحداث في تلك الفترة وعناوين الصحف الفرنسية، لا يمكنه إلا أن يخرج بالانطباع الواضح بأن الصفقة مع سليمان كانت قد عقدت قبل فترة طويلة، وأكدت ذلك مواقفه بعد وصوله، من الصفقة التي دفعت ثمنها السعودية وقبضها الفرنسيون فيما لم يحصل لبنان إلا على هتاف رئيسه: تحيا المملكة العربية السعودية، إضافة إلى النأي بالنفس الذي أدخل جبهة النصرة وداعش إلى الجبال.

وبما أنَّ الملف اللبناني لا يشكل إلا جزءاً من الملف السوري، وبالتالي الشرق أوسطي، فإن ساركوزي عمل على مدى سنوات على محاولة استيعاب سوريا، واعتقد في لحظة 13 تموز/يونيو 2008 أنه نجح في ذلك، حين وافق الأسد على حضور قمة إطلاق الاتحاد لأجل المتوسط في باريس بمشاركة “إسرائيل”، وتفاءل أكثر عندما قبلت سوريا بالمفاوضات غير المباشرة مع الكيان العبري عبر تركيا، وبالتنسيق مع فرنسا، لكن عدم استجابة دمشق للشروط المجحفة التي فرضتها المبادرة، ذهبت بالمجاملات التي تشبه عناقات ماكرون في بيروت أدراج الرياح، واندلعت الحرب. كان أي محلل يعرف أن لبنان سيكون المحطة التالية، سواء نجحت الحرب أو فشلت، وهذا ما نعيشه اليوم.

في العام 2010، كشفت وثائق ويكيليكس عن برقيات دبلوماسية أميركية من دمشق وباريس إلى واشنطن، تعبر عن الموقف الأميركي خلال العام 2008 من محاولات ساركوزي التقرّب من دمشق. وقد جمعتها صحيفة “لوموند” في تقرير نشر يوم 8/12/2010 بعنوان “الرهان السوري لساركوزي يترك الأميركيين مشككين”[1].

الملاحظات الدّالة التي تثيرها هذه البرقيات تكمن في:

– أولاً: التوقيت الذي اختارته الصحيفة للنشر، قبل يوم واحد من زيارة الأسد الأخيرة لباريس في العام 2010، وكأنما هي إعلان للفشل الدبلوماسي تمهيداً للذهاب إلى الحرب.

– ثانياً: تكشف البرقيات عن التشكيك الأميركي في نتائج الانفتاح الفرنسي على سوريا منذ العام 2008، حيث كانت “واشنطن تفضّل مقاربة أقل اندفاعاً وخاضعة أكثر وبوضوح للشروط المحددة: منع نقل السلاح إلى حزب الله، دعم حماس، عدم التدخل في العراق، الانفكاك عن إيران”.

– ثالثاً: تشير الوثائق إلى وجود خلاف بين وزارة الخارجية (كوشنير) والإليزيه، حيث تتشدد الأولى في الأسرلة والأمركة، ويحاول الآخر إيجاد مخرج فرنسي. وتصف برقية من ويكيليكس مرسلة من دبلوماسي أميركي في أيار/مايو 2008 مقاربة الرئيس الفرنسي بأنها “رهان كبير محفوف بالمخاطر”، في حين تعتبر “أن وزارة الخارجية أكثر تشدداً وحسماً إزاء دمشق”، حيث “تعلمت الدبلوماسية الفرنسية الدرس منذ فشل محاولاتها في العمل مع سوريا”. بعد ذلك بشهر، في حزيران/يونيو 2008، تسخر برقية أميركية أخرى من كون “مبعوث الإليزيه اعتبر زيارته إلى دمشق ناجحة”.

وتشير البرقيات إلى أن “الأميركيين اعتبروا في البداية أنّ ساركوزي يسير في خط جاك شيراك الذي تعاون بدقة مع واشنطن حول سوريا منذ العام 2004″، وخصوصاً أن شيراك عقد قبل رحيله عن الإليزيه “اجتماعاً بين المرشح ساركوزي وسعد الحريري، تعهد فيه الأول بالحفاظ على الموقف نفسه”.

–  رابعاً: يأتي في إحدى البرقيات: “رغم أن الإليزيه كبح اندفاعته في بداية العام 2008، فإن واشنطن تتوجس من زيارة سكرتير الإليزيه كلود غيان إلى سوريا. ويعود التوجس إلى التخوّف من أن يذهب ساركوزي إلى تفضيل نجاح مشروعه الاتحاد لأجل المتوسط على القضايا الأخرى”.

–  خامساً: في السياق نفسه، تحتجّ البرقيات على زيارة ساركوزي المقررة إلى دمشق في أيلول/سبتمبر 2008، باعتبارها “سابقة لأوانها، لأنها تبدو مكافأة لدمشق على وعود غامضة من دون تأثير”. وفي برقية أخرى، يورد دبلوماسي أميركي أن بوريس غويون، أحد مستشاري الإليزيه، يرد على كل ذلك بأن ساركوزي “رجل براغماتي، هدفه جعل سوريا بناءة أكثر حول لبنان، وإبعادها عن تحالفها مع إيران. أما إذا تصرف السوريون بشكل سيئ، فالوبال عليهم”.

–  سادساً: يدور الرهان حول إبعاد سوريا عن إيران، فيكتب مستشار فرنسي: “لقد تمكَّن ساركوزي من التأثير في الأسد في ما يخص الملف النووي الإيراني”، غير أن الأميركي يرد في برقية أخيرة: “نحن متشككون إزاء لحظة الاستيعاب هذه”. وفي السياق نفسه، ترد برقية على لسان جان إيف كوثران، بأن “إبعاد سوريا عن إيران هو فكرة جيدة، لكنها لن تنجح أبداً”.

–  سابعاً: التخوّف الأميركي من التقارب، من زيارة الأسد لباريس وزيارة ساركوزي لسوريا، واحد: “أن تعتقد فرنسا بأنها ستنجح في إبعاد سوريا عن إيران، وأن تأمل فرنسا بدور الوسيط بين سوريا وإسرائيل”، والنتيجة أن يقوم الأسد بتوظيف طموحات ساركوزي، “ما يجعله أقوى”، وأن يحقق “مكسباً في حملة علاقات عامة”.

بعد فترة يرد في برقية من السفارة الأميركية من باريس تحت عنوان “الطموحات الفرنسية المحبطة”: “لقد أحبطت الطموحات الفرنسية في الشرق الأوسط، وأصبح الرسميون الفرنسيون مقتنعين بأن اليد التي مدها ساركوزي لدمشق جعلت الرئيس الأسد أكثر إنتاجية”.

– ثامناً وأخيراً: إن تاريخ البرقيات المذكورة يعود إلى ما بعد انتخاب باراك أوباما وانطلاق السياسة الأميركية الجديدة القائمة على التحالف مع الإسلام السياسي، وتحديداً الإخوان المسلمون في العالم العربي؛ تحالف كان قد تبلور بشكل واضح في تاريخ نشر “لوموند” للتقرير في العام 2010، في حين كان ساركوزي حليف قطر، الحاضنة الأساسية للإخوان المسلمين في الدول العربية، ما يعني أن الأمر بدأ مع الجمهوريين، واستمرّ مع الديموقراطيين، وصولاً إلى التفجير.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى