الأميركي بن ليرنير يفتح السرد على كل إمكاناته
منذ روايته الأولى «مغادرة محطة أتوشا» (2011)، فرض الأميركي بن ليرنير نفسه كواحد من ألمع كتّاب جيله بسخريته الثاقبة فيها من البنية التقليدية لروايات معاصريه، وبراديكالية عالمه الأدبي الفريد. عالمٌ لا يسهل ولوجه، لكننا نتآلف أكثر فأكثر معه في روايته الثانية «10:04» التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «لوليفيي» الباريسية.
ولمن لم يقرأ ليرنير بعد نشير أولاً إلى أن هذا الكاتب لا يعتبر نفسه روائياً، بل شاعراً يقيم علاقة متناقضة مع شكلٍ سردي ينظر إليه كإطار غير ثابت ومتعدد الأصوات قادر على كشف الروابط بين الكتابة الروائية وغير الروائية، بين الشعر والنثر، وعلى تعرية الـ «أنا»، لكن من مسافة معيّنة.
هذا ما نستشفّه بسرعة في روايتيه اللتين تشكّلان لوحة واحدة بمصراعَين. ففي الأولى، نتعرّف إلى شخصية كاتب أميركي شاب يقيم موقّتاً في مدريد ويتخبّط في علاقة مستحيلة مع الواقع والتاريخ والسرد. ولأنه يستنتج عجزه عن التطابق مع شخصيته، يبتكر حياةً لا يعود يعرف فيها من هو حقاً، ويفشل في تلقّي أحداث زمنه، وتحديداً التفجيرات الإرهابية التي شهدتها مدريد عام 2004، كما لو أنه مجرّد عابر سرّي للعالم.
في الرواية الثانية، التي تُمكِن قراءتها كنصٍّ مستقل، نعود فنلتقي بالكاتب الشاب نفسه، لكن هذه المرة في نيويورك أثناء الإعصار «ساندي» الذي ضرب المدينة عام 2012، حيث يظهر لنا كغرفة أصداء عالمٍ معاصِر يُكتب تحت شعار النقص والفشل، ويحاول هذا الكاتب ـ الراوي الإمساك به وتحويله إلى تجربة خلّاقة. وتدريجياً يتبيّن لنا أنه وضع روايةً أولى لاقت نجاحاً كبيراً، ونشر قصة في مجلة «نيويوركر» جلبت له عرضاً مغرياً من دار نشر شرط توسيعها وتحويلها إلى رواية يمكن لأكبر عدد من القرّاء ولوجها.
وقد يبدو مستقبل الراوي زاهراً وواعداً على ضوء هذه المعطيات، لكن الأمر ليس بهذه البساطة. فإلى جانب «متلازمة الصفحة البيضاء» التي تتربّص به، تكشف له صديقته الحميمة أليكس عن رغبتها في إنجاب طفل منه، لكن من طريق التخصيب الاصطناعي، ويكتشف خلال فحصٍ طبّي أنه يعاني من اتّساع الشريان الأبهر عند مستوى القلب.
ولن يلبث احتمال موته الوشيك وفكرة الابوّة أن يقوداه إلى تأمّلٍ عميق يختلط فيه الماضي والحاضر، الواقع والخرافة، ما يقود إلى تصادُم احتمالات مستقبله المتعددة داخله، هو الذي كان حتى البارحة يحلم بأن يكون «ويتمان» آخر في مدينة مهدَّدة بالدمار.
ومن طريقة عرضنا موضوعها، قد يظنّ القارئ أن الرواية مثيرة للاكتئاب، لكن هذا غير صحيح لأن نصّها يتميّز غالباً بطرافة كبيرة ويثير فضولنا إلى أبعد حد بالنظرة الحادة والبصيرة التي يلقيها ليرنير فيه على العالم ومشاكله الكثيرة، على البشر الذين يبدون مرضى بمعظمهم، وعلى السرد الخيالي الذي يتوق إلى منح معنى لكل ما يعترينا ويحيط بنا، من دون أن ننسى الموضوع المثير لتلك الرواية التي التزم الراوي كتابتها بعد توقيع عقدها مع الناشر، ويمكن اختصارها على النحو الآتي: كاتبٌ يحاول رفع قيمة أرشيفه الشخصي من أجل بيعه، فيفبرك مراسلات بينه وبين بعض الكتّاب الكبار.
رواية مزوّرة إذاً حول الاحتيال الأدبي وفبركة الماضي، تتحوّل تدريجياً تحت أنظارنا إلى رواية حول حاضرٍ حيّ بآفاقه المستقبلية المتعددة، لأن الراوي يقرر في النهاية تحويلها إلى «عمل أدبي لا هو خيالي ولا هو واقعي، بل تأرجُحٍ بين الحالتين، تماماً مثل قصيدة».
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الراوي هو في الواقع صنو الكاتب ليرنير، مع استفحال عيوب هذا الأخير وهواجسه فيه. فإلى جانب دمجه في عملية السرد مغامرة الكتاب الذي هو في صدد كتابته، واستعانته بكل ما يعيشه ويختبره كوقود أو مادّة كتابية، يتشارك مع مُبتكِره عناصر كثيرة. فالاثنان هما من مدينة توبيكا (ولاية تكساس) ويعيشان في بروكلين بعد إقامة في مدينة مارفا، والاثنان أصدرا قصة بعنوان «الغرور الذهبي» في مجلة «نيويوركر» ويبجّلان الشاعرين جون أشبيري وويتمان وفيلم «عودة إلى المستقبل» (1985)، وكلّ منهما عرف أنه سيكون كاتباً لدى مشاهدته وهو طفل انفجار المركبة الفضائية «شالنجر» على شاشة التلفاز.
تشابُه كبير إذاً بينهما يخلق التباساً ثابتاً لدينا يجعلنا نتساءل من منهما كتب «مغادرة محطّة كاتوشا» وينشط في كتابة «10:04»، علماً أننا لا نسعى خلال القراءة إلى تبديد هذا الالتباس، بل نستسلم له مستمتعين بحساسية ومهارة كاتب قادر على استخراج الخرافة من أقلّ ذرّة واقع، وعلى تعرية طاقات هذا الاستكشاف داخل كل سطر من سرديته.
وفعلاً، يبدو مجمل نصّ الرواية ممزّقاً بين خيال وواقع، بين سردٍ ونقدٍ للواقع وللفن الروائي، بين صراحة وسخرية (الواحدة تخلق إمكانية الأخرى)، بين نثرٍ وشعرٍ، وبين ثقافة مشروعة وأخرى شعبية. ولا عجب في ذلك، فليرنير يتعامل مع الأدب ككُلٍّ، أي من دون تمييز بين الأُطُر والأنواع والأشكال والأجناس، ووحدها نظرته تمنح دقةً ومنطقاً لما يقاربه ويحلله: مدينة نيويورك التي تبدو معرّضة لانهيار وغرق وشيكين (بسبب الاحتباس الحراري والرأسمالية)، وفيلم «عودة إلى المستقبل» الذي يتحوّل إلى رمز لتاريخٍ بديل لأميركا (ومع ذلك واقعي بشدّة)، وشخصية الراوي الهامشية التي تعاني من عدم استقرار ملحوظ في عواطفها وعلاقاتها ونظرتها إلى ذاتها، إضافةً إلى موضوعات كثيرة غيرها لا مجال هنا للتوقف عندها.
باختصار، «10:04» هي رواية مطلقة بمعنى أنها تتوق إلى استقبال ومعانقة كل شيء، من الأرض إلى الفضاء الكوني، مروراً بخيالنا الحميمي والجماعي، وبخرافات وعينا ولاوعينا، مقترحةً تشييدات فنية وسياسية يمرّ كل شيء فيها بموشور نظرةٍ لا تطمح إلى أقل من تغيير نظرتنا إلى العالم والأدب، ومن تحويل متعة القراءة إلى تجربة ميتافيزيقية.
وفي ذلك، يندرج هذا العمل ضمن مشروعٍ ليرنير الكتابي الذي يتضمن رواية أخرى وثلاثة مجموعات شعرية وبحثاً ومقالات لا تحصى، ويشكّل بطريقةٍ ما «بحثاً عن الزمن الضائع» بصيغة معاصرة، وعالماً أعيد ابتكاره بمخيّلةٍ تفتحه على كل إمكانياته وبدائله. من هنا أهميته وضرورة اكتشافه.
يبقى أن نشير إلى الجهد الجبّار الذي بذلته الروائية جاكوتا أليكافازوفيتش من أجل ترجمة هذا النص الصعب إلى الفرنسية، وإلى نجاحها في نقل إيقاعات لغته وكثافتها وألوانها، وأيضاً نبرته المتقطّعة، مبرهنةً عن مهارات كتابية وفنّية تضارع تلك المدهشة التي يتمتّع ليرنير بها.
صحيفة الحياة اللندنية