مكاشفات

الأمير الحسن وتفعيل الحضور الشّبابيّ في القضايا المصيريّة للأمّة

د. محمد الحوراني

على الرّغم من قلّة اللّقاءات مع سمو الأمير الحسن بن طلال إلّا أنّني مع كلّ لقاء كنت أدرك حجم الوجع المتمكّن من عقله وقلبه؛ نتيجة ما أصاب أمّته من ظلم وقهر، يصعب على الجبال تحمّله، ولأنّ الأمير كان صاحب رسالة تاريخيّة وحضاريّة إنسانيّة قائمة على التّمسّك بالحقّ والدفاع عنه في أحلك الظّروف واللّحظات، فإنّه آثر القبض على جمر المبادئ والتّمسّك بالثّوابت، كما أنّه اختار الذّهاب إلى البيئة الأكثر خصباً وفائدة للزّراعة والاستثمار فيها، أعني البيئة الشّابّة، هذه البيئة الّتي طالما تعرّضت إلى التّهميش والإفقار والاستغلال وتزييف الوعي حتّى تكون خارج التّاريخ وداخل قهر الجغرافيا، والتي جعلت منها الأنظمة سجناً لعقول الشّباب وأجسادهم، أو مختبراً يجري التّعامل فيه معهم على أنّهم ليسوا أكثر من فئران تجارب في حقول قاحلة ومجدبة من اليأس والخذلان.

في اللّقاء الأخير مع سموّ الأمير، الّذي عوّد حضوره على كسر نمطيّة اللّقاءات من خلال مبادرته بالسّلام عليهم ومصافحتهم فرداً فرداً قبل الجلوس، سألني بوجعٍ وغُصّةٍ عن سورية وعما يخطّط لها، وخصّني بسؤال عن السّويداء وحالها، وأنا الّذي كنتُ تحدّثت في لقاء سابق مع سموّه عن اشتغال الأعداء على “تسخين الأقلّيّات” من أجل إشعال بلادي وتفجيرها وتفتيتها انطلاقاً من العقيدة والإستراتيجيّة الصّهيونيّة القائمة على “حلف الأقلّيّات”.

وفي لقاء سابق قبل عام أو أكثر، عرض سموّه خرائط عديدة تحذّر من الواقع الّذي يراد جرّ المنطقة إليه، وسورية بالتّأكيد جزء أساسيّ منها، وحينها طلبت من سموّ الأمير الحصول على نسخة من الخرائط نظراً لأهمّيّتها وخطورتها، وهو ما حدث فعلاً.

ولما كانت معاناة أهلنا في فلسطين المحتلّة عموماً، وفي غزّة خصوصاً حاضرة في لقاءات ومجالس الأمير كان لا بدّ أن تكون هذه اللّقاءات قائمة على أصالة الموقف وعمق الرّؤية، وكان من الطّبيعي أن يطلب من الحضور المساعدة في إيجاد أفكار مشتركة لإيجاد موقف موحّد وجامع للوقوف في وجه المذبحة الّتي يقوم بها المحتلّ الصّهيونيّ بحقّ أهلنا في غزّة، وهي مجزرة لن تقتصر على غزّة، وإنّما ستتعدّاها إلى مناطق أخرى، وهو ما يؤكّده مشروع E1 وغيره من المشروعات الّتي يشتغل عليها الصّهيونيّ انطلاقاً من عقيدة توراتيّة صهيونيّة نحو “إسرائيل الكبرى”، وهو ما يعني بالضّرورة السّيطرة والتّحكّم بكامل القدس وأوقافها ومقدّساتها وكلّ ما فيها، لهذا كان لا بُدَّ من توجيه صرخة قويّة وسط هذا الخراب والظّلم والقهر والقتل لتوحيد الجهود من أجل الوقوف إلى جانب الحقّ الفلسطينيّ وأهله، ومن هنا أتى تأكيد سموّه مفهوم التّكافل، وليس التّكافؤ، وهو مفهوم لا يقتصر على العلاقة بين الأفراد من البشر، وإنّما ينسحب على علاقات الدّول، ومن هنا أتت تأكيدات الأمير في لقاءاته ضرورة بناء مجتمع عربيّ متماسك بمحيطه القوميّ الجامع للعرب والكرد والفرس والتّرك، بصفتهم يشكّلون أعمدة الأمّة الأربعة في مواجهة التّحدّيات، ولما كانت الثّقافة والفكر والشّباب هم الأساس الّذي يقوم عليه أيّ مشروع حضاريّ، كان الاهتمام كبيراً بالدّعوة لمؤتمر شبابيّ عربيّ كبير، بحضوره وموضوعاته المطروحة للنّقاش بين الشّباب وغيرهم من أصحاب الفكر والسّياسة والأكاديميّين، ولعلّ الهدف الأساسيّ من المؤتمر هذا هو الانتقال إلى الخطوات العربيّة في تجسيدات الوعي وتنظيف العقول، وخاصّة عقول الشّباب، ممّا علق بها، ولهذا غدا فكرها مزيّفاً، وثقافتها مسطّحة ومغلوبة، بعد أن كانت صاحبة السّيادة والرّيادة العلميّة والأدبيّة والمعرفيّة، ولعلّ هذا ما قصده في مصطلحهِ الجديد “أنا وسطيّ متطرّف” بكلّ ما يعنيه التطرّف في الدفاع عن الوسطيّة الفاعلة والنابعة من الوعي والإرادة والرّغبة في الوصول إلى قواسم مشتركة بين أبناء الوطن الواحد بمختلفِ انتماءاتهم الدينيّة والعرقيّة والطائفيّة. ولهذا كان لا بُدَّ من لقاءات مع طلبة الجامعات والأساتذة فيها لتنسيق الجهود وتحشيد الإمكانيّات من أجل إنجاح هذا المؤتمر وتحريض الشّباب على الانخراط بقوّة وفاعليّة في التّأسيس لوعي نهضويّ قائم على فكر أصيل؛ قوامه العدالة والكرامة الإنسانيّة والتّكافل والتّعشيق الحضاريّ وتعزيز المصالح المشتركة والتّماهي مع القضايا الكبرى، وفي مقدّمتها قضيّة فلسطين، الّتي لم يترك الكيان المحتلّ نوعاً من أنواع الأسلحة الفتّاكة وفهرس التّعسّف إلّا واستخدمه في حربه على غزّة، وصولاً إلى جرائم الإبادة والقتل وزيادة الفقر والحرمان.

هكذا بدت العلاقة في اللّقاءات الشّبابيّة والفكريّة في “قصر بسمان” وغيره من الأماكن، إنّها الرّغبة الحقيقيّة في إشراك الشّباب العربيّ بفهم الأزمة العربيّة العميقة، كما أنّها خطوة عمليّة من شخصيّة فكريّة وثقافيّة وسياسيّة، لها حضورها ومصداقيّتها وفعلها التّنويريّ الحضاريّ؛ لوضع حدّ لمشكلة عميقة وخطِرة بين جيلين أبعد الأوّل الثّاني عنها؛ ليستأثر بكلّ شيء، فكان استئثاره خراباً ودماراً؛ ليس على دولة واحدة، وإنّما على الأمّة جمعاء، لهذا كانت هذه اللّقاءات والتّحضيرات للمؤتمر، في هذه اللّحظات الحرجة من تاريخ الأمّة، بمنزلة صرخة واستنهاض للأمل ورغبة عمليّة في الانتقال بالتّعامل مع الشّباب من عقليّة الوصاية إلى عقليّة المشاركة في صياغة الرّؤية وبناء المجتمعات وإعمار العقول بعيداً من التّلقين والأستذة، الّتي على الأغلب تحوّلت إلى قهر وظلم واستبداد وإرهاب دمّر وحدة المجتمعات وأدمى جسدها.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى