الأنظمة السياسية واللغة العربية
تساهم اللغة في رسم معالم الهوية، وتلعب الدور الأساس في اكتمالها واستمرارها والحفاظ عليها. وبرغم وجود عوامل أخرى عديدة في تحديد الهوية وتأكيدها، إلا أن اللغة تبقى بالإضافة إلى الثقافة، العامل الأساس والمؤثر في ذلك، لا يضاهيه الموقع الجغرافي ولا العلاقات الاقتصادية أو الجنسية ولا غيرها. وإذا فقدت الأمة ثقافتها ولغتها، فمن المشكوك فيه أن تبقى حية ونشطة، وتستحق أن يطلق عليها تسمية أمة.
في المقابل، ترتبط قوة اللغة، كلمات وأسلوباً وانتشاراً، بمدى قوة الأمة التي تتكلم بها، وتغتني الأولى بغنى الثانية وتضعف بضعفها. فقوة اللغة واستمرارها وانتشارها لا تعود لأسباب ذاتية تتعلق ببنية اللغة نفسها فقط ، بل بمدى تقدم حضارة الأمة وثقافتها، وفي عصرنا بمدى اختراعاتها وتقدمها العلمي وإبداعها ونشاطها الاقتصادي وحاجة المجتمعات الإنسانية إليها، سواء في مجال العلوم والاقتصاد والتبادل التجاري أم في استخدام منتجاتها الصناعية والزراعية والطبية وغيرها. وهذه جميعاً هي التي تعطي اللغة القوة والمنعة وإمكانية الانتشار، وتتجدد مع نهضة الأمة وتصبح ضرورية للمجتمعات الأخرى بقدر ضرورة منتجاتها الفكرية والمادية والسلعية للآخر. وفي ضوء هذا، عندما كانت «الإمبراطورية العربية» تمتد من غرب الصين إلى شبه جزيرة إيبيريا، ورافق هذا الامتداد تطور حضاري وعلمي وثقافي وطبي وفلكي وفلسفي وغير ذلك، كانت اللغة العربية هي الأقوى في العالم. وكانت قوتها بطبيعة الحال، تتناسب طرداً مع قوة أهلها. وقد تقدمت العربية وتراجعت مع تقدم الأمة وتراجعها، حتى أصبحت سجينة البلدان العربية، من دون أن يرى أحد خارج هذه البلدان أهمية لتعلمها ونشرها، فهي الآن بالكاد ما زالت لغة حية عاتية على التراجع والتآكل.
استفادت اللغة العربية خلال التاريخ من لغات البلدان التي توسع فيها العرب (وعرّبوها)، خصوصاً من اللغة الفارسية. واغتنت العربية بتلك اللغات لفظاً وأسلوباً، وكانت قادرة، بسبب قوتها وقوة الدولة العربية ومرونتها وقابليتها على تمثل اللغات والثقافات الأخرى، على استمرار هيمنتها وقوتها، حتى أن العلماء والمثقفين والأطباء والمخترعين والفلاسفة من أبناء الشعوب المسلمة الأخرى، كانوا يكتبون نتاجهم العلمي والفني والطبي والثقافي عامة بها إلى جانب لغاتهم الأم أو بديلاً عن هذه اللغات، وشهدت اللغة العربية مجدها في القرنين الثالث والرابع الهجرِيَّين (العاشر والحادي عشر الميلاديين) بما يتطابق تماماً مع اتساع الحضارة العربية وقدرتها وقوتها. إلا أن أوج توسعها هذا كان، في الوقت نفسه، بداية تراجعها لمصلحة لغات الشعوب الإسلامية المحلية ولغات الدول الناهضة، وساعد على استمرارها برغم تمزق «الإمبراطورية العربية» أنها لغة القرآن، التي كان التكلم بها يشبه العبادة لدى الشعوب المسلمة، حيث تقربهم من الدين. وقد استطاع العرب في فجر الإسلام وصدره تسويق صفة قدسية اللغة العربية وأهميتها الدينية لدى هذه الشعوب. وما ساعد على إبقاء اللغة العربية حية وحيوية بضع صفات ذاتية تملكها أكثر من كثير من لغات العالم مثل الترادف والأضداد والمجاز والطباق والجناس والسجع والتشبيه والمرونة وغيرها من الخاصيات الذاتية، التي مكنتها من استيعاب اللغات الأخرى وتمثُلها، وأعطتها جمالاً جعل متعلميها من الشعوب غير العربية يحبونها إلى درجة العشق. وقد ظهرت المرونة جلية في التعريب، في الأندلس خصوصاً، كما عندما ادخل العرب المسميات الإسبانية للمناطق والمدن في لغتهم وأجادوا تعريبها، فتحولت «سيفيلا» إلى إشبيليا، و»غواد الغير» إلى الوادي الكبير، و»كوردوبا» إلى قرطبة، و»غرينادا» إلى غرناطة وكلمات أخرى كثيرة مشابهة.
عندما أصيبت «الإمبراطورية العربية» بالضعف والتفكك والانقسام والتخلف، أصيبت اللغة العربية بما أصيبت به الأمة، فبدأت تتراجع، وانتشرت اللهجات العامية انتشار الفطر، وكلما انغلقت المناطق الجغرافية العربية على نفسها، كلما تعددت اللهجات. وبسبب ضعف التواصل وانهيار مركزية الدولة وتأثيراتها الثقافية والسياسية، صار لدى العرب لغة فصحى ولهجات محلية عديدة، وأخذوا يشعرون بوجود حاجز نفسي وثقافي بينهم وبين لغتهم الفصحى، التي أصبحت لغة دوائر «الدويلات» والمدارس والكتب (على ندرة الذين يستطيعون القراءة والكتابة). وزاد الأمر سوءاً أن السلطنة العثمانية أبعدت اللغة العربية عن المدارس والمحاكم والإدارة عامة، فذوت اللغة الفصحى واقتصر تواجدها في الكتاتيب والكتب والفروض الدينية، وتركت النشاط الاجتماعي والاقتصادي وغيرهما إلى اللهجات العامية، ولم يعد أحد يتكلم الفصحى أو حتى يستطيع تكلمها سوى النخبة من المتعلمين وبعض الفقهاء والمؤمنين أثناء صلاتهم.
ومثلما أصاب مرض الشعور بالدونية الفرد العربي أمام وطأة النهضة الأوروبية والغزو الأوروبي للبلدان العربية، وأمام الدهشة بالمنتجات الحضارية الأوروبية والصناعات المتنوعة والقوة العسكرية والتقدم العلمي والحضاري عامة، أصاب الأمر نفسه الموقف من اللغة العربية من جانبين: أحدهما أن العربي أصبح مضطراً لتداول ألفاظ عديدة جداً بلغة المستعمر، لأنه عرفها بعد قدومه. والثاني أنه أيقن أن إتقان لغة المستعمر هي وسيلة للعيش والتقدم والرفاه.
لعبت المدارس دوراً هاماً في إحياء اللغة العربية طوال القرن العشرين وانتشرت اللغة الفصحى بما يوازي انتشار التعليم. ثم مع تفجر الاتصال، تداولت وسائل الإعلام لغة فصحى «مبسطة» وساهمت في نشر الفصحى ونحّت جانباً اللغة المعقدة التي كانت تصر مجامع اللغة العربية على تداولها، من دون أن تقتنع أن اللغة كالكائن الحي، ينمو ويتطور ويمكن أن يموت إن لم تتهيأ له شروط مناسبة. ومن الشروط المناسبة للغة العربية تبسيطها والحفاظ على مرونتها وقبول إدخال المصطلحات الأجنبية إليها، وأمور أخرى عديدة يمكن أن يتعامل معها اللغويون ويتخلون عن التشبه بذاك الباحث اللغوي الذي أمضى عمره وهو يبحث في كلمة «حتى» وإعرابها وتأثيرها اللغوي وعندما شارف على الوفاة قال: «أموت وفي نفسي شيء من حتى».
يتكلم العربية الآن في عالمنا 425 مليوناً باعتبارها لغتهم الأصلية، وتحتل العربية موقعا بين اللغات السبع الأكثر تداولاً على «الإنترنت» التي تصر المجامع اللغوية على تسميتها بـ «الشابكة»، وقد أصبحت منذ ما يقارب الأربعين عاماً لغة رسمية لدى الأمم المتحدة ومنظماتها، ولذلك قررت «اليونسكو» تحديد يوم عالمي للغة العربية، هو يوم 18 كانون الأول من كل عام، والاحتفال بها.
لا تقع المسؤولية على اللغويين ولا على المجامع اللغوية أو على وزارات التربية، إنما هي أولا ًوأخيراً مسألة سياسية. فعلى الحكومات العربية، ما دامت عاجزة عن تحقيق النهضة العلمية والحضارية والثقافية التي تنهض معها اللغة وتنتشر، الاهتمام بتبسيط اللغة ونشر استعمالها، وإعطاؤها الأهمية المعنوية التي تستحقها، وإدخال ذلك في قيم المجتمعات وتقاليدها، وإلزام من ينبغي إلزامهم التحدث بها من دون أخطاء بعد إصلاحها وتسهيلها وعلى رأسهم السياسيون أنفسهم، الذين يخطئ بعضهم أخطاء عدة في كلمة واحدة، فضلاً عن الصحافيين والمذيعين والإعلاميين والكُتَّاب والمدرسين وكبار الموظفين وغيرهم. وإلا فلن يكون الخطر على اللغة وحدها، بل سيكون على هوية الأمة أيضاً.
صحيفة السفير اللبنانية