الأنظمة تغلق المقاهي (علي البزاز)

 

  

علي البزاز

عُرف المقهى في مدينة اسطنبول عام 1554، قبل قرن من وجودها في مدن مهمّة مثل لندن وباريس وأمستردام. المقهى بظهوره في الحياة الاجتماعية، كمكان للراحة يجتمع فيه الناس، نافس الجامع بوصفه المكان الأوحد الذي يجمع الشعب تحت شعار الدين. وهكذا، انحصرت وظيفة الجامع بالصلاة، بعكس ما كانت عليه سابقاً، عندما شملت التدريس والقضاء والأمور الدنيوية كالبيع والشراء.
أفتى الفقهاء العثمانيون وقتذاك ضدّ المقهى تحريماً، انتقاماً من التطاول على هيبة الجامع كمكان وسلطة دينية. ساهم ازدهار المقهى بتأسيس نواة المدينة الحضرية، فمثلاً تأسّس في المقهى مسرح الدمى «قرقوز» التسمية التركية. وبدوره مهّد لانطلاق مسرح المدينة في ما بعد. كما ترسّخت ظاهرة الحكواتي، معلنة فنّ القصّ جماهيرياً.
نجاح المقهى في استقطاب الناس كمكان، دفع القضاء إلى الانفصال مكانياً ولغوياً وفقهياً عن الجامع، فبعدما كان القضاء ضمن أروقة الجامع تحت اسم «دار الإفتاء»، انفصل لاحقاً بمبنى خاص سُمَّي «دار العدالة» أو «المحكمة». حصلت افتراقات كثيرة عن السلطة الدينية بتشجيع من جاذبية المقهى.
منطقة الكرادة في بغداد، أرستقراطية، تسكنها النخبة والدولة والحرس الراعي للدولة. الغني يتستّر على الغني في تواطؤ خفيّ طبقي واجتماعي. ثمة حوادث وشاية ومصادرة أملاك في زمن البعث لصالح الأمن والمخابرات، لم تعكّر انسجاماً ولو ظاهرياً بجمع كل فئات الشعب العراقي، منها المسيحية (منحت المانيا مؤخراً اللجوء السياسي إلى 900 عائلة مسيحية عراقية). وكمنطقة مرفهة اقتصادياً، تُراعي الذوق الجمالي المديني من مقاهٍ ومحلات وشوراع نظيفة وزينة، بقيت بعيدة عن مظاهر الريف والعشائرية.
يسود بغداد الآن ترييف منهجي يشمل العمارة (تعاني البيوت البغدادية التراثية في شارع البتاوين ومناطق أخرى التهديم والاهمال)، والشكل البصري ومظاهر الفرح والعزاء حتى، حيث تُنصب السرادق في الشوارع عشائرياً، انتشار اللافتات وصور الرموز الدينيةً ارتجالاّ… وهذا ينذر بتراجع جليّ لثقافة المدينة.
لا تزال الأحزاب الدينية تشتري في منطقة الكرادة، فللاً ومؤسسات ومحلات، تجعل المكان مغلقاً على شريحة اجتماعية حزبية واحدة منسجمة التصور والميول والعقائد.
قامت أمانة بغداد مؤخراً (يُسمّي مسؤولها نفسه خادم بغداد) بمساعدة الشرطة وقوات الأمن بإغلاق مقاهٍ، بحجة وجود تبرّج ولهو فيها، منعت النادلات «القاصرات» من الخدمة، بل أغلقت مقاهيَ شعبية منعاً «لتدخين» النارجيلة بعد الفطور. تتفاهم الأحزاب الدينية مع بعضها خفية وعلانية، إذ جمع شبابها تواقيع لغرض غلق المقاهي، تقليداً لما يحصل في مصر. أصبح الاتفاق الحزبي لفئة اجتماعية معينة قانوناّ وفيصلاً، عوض الدولة وقوانينها. فلم تثبت أمانة بغداد رسمياً مخالفة المقاهي شروط العمل. يحدث هذا كلّه في واقع تردي الأوضاع الأمنية وتململ المواطن العراقي من عدم حصوله على الحصة التموينية الكافية في شهر رمضان، الذي شهد انقطاع الكهرباء لساعات طويلة متكرّرة، مع حرارة 69 مئوية نهاراً و 44 ليلاً، مع تضييق وسائل الراحة والرأي، كاعتقال الصحافي العراقي النصيراوي.
وتنظم مجموعة من المثقفين العراقيين دعوة «للتوقيع والتضامن من أجل بغداد»، تقدم نتيجتها إلى رئاسة مجلس الوزاء والمعنيين في الدولة العراقية، مما جاء فيها: «من راهن بغداد وركامها، وخرائبها ويد العبث التي تمتد إلى معالمها التراثية الثمينة، عبر استباحات مستمرة على ملامحها وروحها «المتبغددة»، لاسيما في مناطق مركزها الصغير الباقي من أصلها، والذي يشكل 1/ 300 من مساحتها المبنية».

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى