الإبداع النِسوي العربي والتحوّلات الاجتماعية
لئن كتبت المرأة تحديداً نصوصاً روائيّة تسعى للإحاطة بواقع مركّب معقّد مثقل بالتناقضات والهموم التي فرضها عليها المجتمع الذكوري كجنس، فإنّ ذلك لم يُخرِج هذه الكتابة عن القوانين العامة لفنّ الكتابة الروائية وإن كانت تنطوي على حساسيّة مختلفة عن تلك التي يمكن تلمّسها في كتابة الرجل، بسبب اختلاف التجربة الذاتية والاجتماعية لكلّ من الجنسَين، والتي أسهمت في نسج تلك الحساسيّة المختلفة في إبداع الرجل وإبداع المرأة.
لقد شكّلت الرواية الإطار الذي عبّرت فيه المبدعات العربيّات عن الخلل الذي ينهض عليه الاجتماع العربي برمّته، وإن استندن في إبراز هذا الخلل إلى هذا البلد العربي أو ذاك. فرصد الرواية للتحوّلات التي تشهدها مصر مثلاً، يحيلنا إلى ما تشهده غالبيّة البلدان العربيّة وعواصمها. فيما تحيلنا حروب العراق إلى حروب المنطقة بأسرها، وتحيلنا ثورة الربيع العربي في تونس إلى مثيلاتها في مصر وليبيا واليمن وسوريا، ويحيلنا توصيف الرواية للتيارات الإسلاميّة المتشدّدة في مصر أو سوريا أو العراق إلى مثيلاتها في سائر الدول العربيّة أيضاً.
كثيرة هي الروايات التي كتبتها نساء في زمن التحوّلات الراهنة، ومتعدّدة هي الحقول التي تطرّقن إليها، والأساليب السرديّة والأشكال التي تبنّينها. لكنّ المشترك بين هذه الروايات كلّها هو أنّ مادّتها، سواء أطالت الذات أم المجتمع أم التاريخ، لم تعد محصورة بالوقائع بحرفيّتها، بل بالبنية الفنّية الحاملة لمنطق الرواية ولرؤيتها الإبداعيّة.
فبين روايات الذاكرة (“طبول الحبّ” للروائية السورية مهى حسن، و”عصيّ الدمّ” للروائية السورية منهل السرّاج، و”طشّاري” للروائية العراقية إنعام كجه جي، و”ذاكرة الرصيف” للروائية التونسية رؤى الصغير)، والمحاكاة الساخرة للواقع (“الطابور” للروائيّة المصريّة بسمة عبد العزيز)، والفانتازيا (“جبل الزمرّد” للروائيّة المصريّة منصورة عزّ الدين)، تعدّدت أنماط الروايات بقدر ما تنوّعت الموضوعات لكن من دون أن تغوص الكتابة، في الغالب، في نوعٍ من البوح الآني المتمركز حول الذات. فكانت بغالبيّتها روايات تبحث عن معنى في زمن التحوّلات الراهنة؛ معنى حفرت فيه الروائيات منظورهنّ للعالم المطبوع بخصوصيّتهنّ الأنثويّة.
روايات الذاكرة
شكّلت مقاومة النسيان، في السياق الروائي، إحدى التعبيرات الاجتماعية في زمن التغيير. ولعلّ رواية “طشّاري” للروائية العراقية إنعام كجه جي، هي خير مثال على تلك المقاومة التي تأرجحت بين خطَّين: مقاومة التغيير المدمِّر لوطنٍ وتاريخٍ ونسيجٍ اجتماعي لمصلحة التشتّت والتدمير والأصوليات الدينيّة وغير الدينيّة من جهة، ومقاومة التهميش الذي طاول تاريخاً صنعته المرأة العراقيّة من جهة أخرى.
في سياق آخر، كتبت الروائيّة السوريّة منهل السرّاج روايتها “عصيّ الدمّ” منكفئة بالذاكرة إلى أجواء ثمانينيّات القرن الفائت، وتحديداً إلى مجزرة حماه التي ارتكبها النظام ضدّ الإخوان المسلمين في العام 1982. الرواية الصادرة في العام 2012 لم تتّجه إلى رصد الأحداث الدامية التي كانت قد بدأت في سوريا، بل عادت إلى تاريخ قريب (الثمانينيّات) كأنّها في رصدها لهيمنة الحكم البعثيّ على الحياة الاجتماعية للناس، رجالاً ونساءً، فسّرت جزءاً ممّا آلت إليه أحوال سوريا في الألفيّة الثانية. هذا التاريخ القريب حيكت تفاصيله من خلال عائلة من عائلات الطبقة الوسطى المدينيّة، التي نسجت منهل السرّاج من خلالها حكاية رجال ونساء قهرتهم السياسة، وأفضت بهم إلى مصائر بائسة، بعكس الآمال التي وعدت بها الأحزاب القوميّة العربيّة والشيوعيّة شعوبها، وبخاصّة النساء.
من ثورة الياسمين إلى الثورة السوريّة
ثورات “الربيع العربي”، كحدث مفصليّ في تاريخنا العربيّ، لم يواكبها نتاج روائيّ نسائي على قدر من النضوج الفنّي يعالج الحدث نفسه. هذا مع ضرورة الإشارة إلى أنّ الجنس الروائي يحتاج إلى مسافة زمنيّة تفصله عن أيّ حدث تاريخي لكي تختمر التجربة. ولعلّ هذا ما عبّر عنه نقّاد وروائيون كثر؛ ومنهم الروائيّة المصريّة منصورة عزّ الدين التي قالت: ” أؤمن فعلاً أنّه من المبكر، بالنسبة إليّ على الأقلّ، الكتابة إبداعياً عن ثورة 25 يناير لأنّها لا تزال في طور الحدوث والاكتمال، وأظنّ أن الكتابة عنها إبداعياً تتطلّب مسافة بيني وبينها، هذه المسافة قد تكون زمنيّة، وقد تكون وجدانية” (جريدة الأهرام، 8 /12/2014)؛ لكنّ بعض النصوص- بما في ذلك نصّ “جبل الزمرّد” للروائيّة نفسها- وإن لم تتناول الحدث نفسه، إلّا أنّها لم تكن بمعزل عنه.
عند صدور نصّ الروائيّة السوريّة مهى حسن (“طبول الحبّ”) مطلع العام 2013 لم يكن قد مرّ على الأحداث في سوريا أكثر من عام. وحين سُئلت مهى حسن عمّا إذا لم يكن من المبكر كتابة رواية عن الذي يحدث في سوريا، أجابت بخصوص روايتها: ” رواية طازجة، رواية الحدث الذي يحدث أثناء الكتابة، ولا يزال مستمرّاً، هي بمثابة توثيق ولكن إبداعي لما يحدث في سوريا. أمّا على الصعيد السياسي أو التوصيفي للثورة، فإنّ روايتي هذه، والتي أحترمها وأحبّها لسبب إنساني أكثر منه إبداعي، قد وثّقت الثورة السورية بنبلها وإنسانيّتها، بل وبانقساماتها البريئة، يعني هي بالنسبة إليّ على الأقلّ بمثابة مرآة للفترة الورديّة للثورة…”(حوار مع مها حسن أجرته فاتنة الغرة: http://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2014/6/23). فكان أن وثّقت مهى حسن بدايات الثورة السورية بقالب فنّي اعتمد الرواية داخل الرواية.
جبل الزمرّد
بعكس مهى حسن، لم تؤرّخ الروائيّة المصريّة منصورة عزّ الدين في روايتها “جبل الزمرّد” أو الروائيّة المصريّة بسمة عبد العزيز في روايتها “الطابور” ثورة يناير مثلاً، كما أنّ الروائية التونسيّة رؤى الصغير، لم تتّجه في روايتها “ذاكرة الرصيف” إلى تأريخ ثورة الياسمين. إلّا أنّ الثورتَين كانتا حاضرتَين في النصوص الثلاثة كحقائق تشير إلى التحوّلات الاجتماعيّة في مصر وتونس. إنّ مناهضة تحريف الذاكرة، وضمناً تحريف الحقيقة، الذي حمله خطاب منصورة عزّ الدين عبر عالم روايتها الفانتازيّ المناصِر للكلمة الحرّة، بدا وكأنّه الوجه الآخر لبلدٍ أنهكته الثورة. ففي محاورة فنّية ومعرفيّة محبوكة مع كتاب ألف ليلة وليلة، قابلت منصورة عزّ الدين بين عالمَيْن: العالم الراهن مجسّداً بالقاهرة وميدان التحرير الذي زلزلته ثورة يناير2011 من جهة، وعالم الفانتازيا مجسّداً بأسطورة “جبل قاف”(أو جبل الزمرّد) من جهة أخرى، الذي زلزلته شخصيّاته الأسطوريّة، وشخصيّاته النسائيّة المتمرّدة بشكل خاصّ. بهذا المعنى حضرت ثورة يناير في نصّ منصورة عزّ الدين، أي من خلال توظيفها الفنّي.
ثورات غير موثَّقة .. لكن حاضرة
في عالم روائي من نوع آخر، يستند إلى الرمز، انبنى نصّ الروائيّة المصرية بسمة عبد العزيز “الطابور” من رمزَين أساسيّين هما: الطابور والبوّابة. مواطنون مصريّون من مختلف الأطياف والأعمار والمهن يقفون في طابور يمتدّ من بداية شارع عريض وحتّى البوابة (التي ترمز إلى السلطة) التي لا تفتح لهم أبوابها. مواطنون بسطاء ذلّهم الوقوف الطويل لأيام وأسابيع وشهور بانتظار تقديم مستنداتهم وأوراقهم، لكن من دون جدوى. شخصيّات كثيرة تختلف ميولها واتجاهاتها وسماتها الذاتيّة (إيناس وأم مبروك وإيهاب وذو الجلباب…)، يجمعها شيء أكيد، هو تلقّيها عسف سلطة البوّابة (بوّابة المبنى الشمالي) التي حلّت محلّ الحاكم القديم. لا شيء في الرواية يشير مباشرة إلى ثورة يناير، وإن كان ثمّة إشارات إلى “أحداث مشينة” و”اشتباكات” و”اشتعال الوضع”.
هكذا لم تحضر ثورة يناير عبر توصيف وقائعها أو عبر توثيق أحداثها، بل حضرت بالتواتر بين توصيف شعب صابر ومسالم وخاضع لدكتاتورية السلطة من جهة، وعناد شخصيّات أخرى أبت الاستسلام، وراهنت على كشف كلّ أساليب التضليل التي تقوم بها هذه السلطة من جهة أخرى.
وفي رواية “ذاكرة الرصيف”، حضرت ثورة الياسمين بغيابها الكلّي. حيث فتحت رؤى الصغير باب الذاكرة على مصراعيه من خلال قصّة حبّ بطلها محمد، الشريد الأربعيني الذي انتهى به الأمر إلى الاستقرار في أحد أحياء العاصمة التونسية، على رصيفٍ تحت سورٍ “متروك ومتهالك”. حيث يتألّف النصّ الروائي من 8 رسائل كتبها الشريد في تواريخ متفرّقة من تسعينيّات القرن الفائت (من 1990 إلى 1999) إلى حبيبته أسيل، والتي لا يدري معها القارئ ما إذا كانت هذه الحبيبة وهماً من أوهام هذا الشريد أم حقيقة. فينبني خطاب الرواية انطلاقاً من بنية روائيّة قائمة على التخييل داخل التخييل، أو الرواية داخل الرواية. فهذه الرسائل التي كتبها رجل، والتي تُحيي في النصّ الروائي صوت الراوي الذكر، لعبت على مسألة الأنوثة والذكورة بفنّية عالية. إذ طغى الحسّ الأنثوي خلف قصّة الحبّ (المتخيَّلة والمختلَقة أو الحقيقيّة) التي جمعت محمد بأسيل منذ أكثر من عقد (أي في أواخر سبعينيّات القرن الفائت) لأنّها تشبهه. أمّا وجه الشبه فهو طفولتهما المعذّبة والمسروقة، التي فرضت نفسها لدى رؤى الصغير بوصفها الحقيقة الوحيدة، أي حقيقة الروائيّ أو التخييليّ الخاصة به.
هكذا عبّرت روائيّات عربيّات، على اختلاف أنماطهنّ السرديّة وأساليبهنّ، عن منظور عميق للتحوّلات الاجتماعيّة بدءاً من حروب العراق، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي التي أفضت إلى أحداثٍ دامية في البلدان التي قامت فيها. فحققّت النصوص استقلالها الذاتي كنوع أدبي أولاً، وكحقل ثقافي ثانياً، ينمو ويتطوّر على الرغم من صيرورة اجتماعية تشي بالتقهقر والهلاك. ومالت غالبية بنى الأعمال الأدبيّة إلى أن تكون إخباراً عن “الحالة الإنسانية” بعموميّتها، بدل أن تكون تمثيلاً قاصراً للواقع.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)