الإبداع, تثقيف أم تشويش؟ (نضال سعد الدين قوشحة)
نضال سعد الدين قوشحة
يصعد الشاعر الحداثي المنبر, ويلقي ما يفترض أنه شعر, فلا يهضمه أحد. يرسم آخر لوحة تشكيلية ليقف أمامها المتلقي وهو ذاهل وجاهل بفوضى الألوان التي يراها. يصنع سينمائي فيلماً , ليضطر المشاهد لمعرفة نصف ميثولوجيا العالم وقصص الخرافات الشعبية حتى يدرك ماهية الفيلم. يخرج مسرحي عملاً, يشعر المتلقي من خلاله أنه في غرفة التعذيب, و المحصلة, المبدع في واد و المتلقي في واد آخر.
كثيراً ما نفر المتلقي من هكذا إبداع يتعالى عليه و يحشره في زوايا الجهل و التخلف , ولكن الحقيقة أن المشكلة ليست في المتلقي بل بالمبدع أو المرسل , والدليل , ندرة متابعي هكذا إبداع. فمعارض تشكيلية فارغة, لايكاد يزورها إلا القلة من الناس ، وندوات للشعر الحديث لا يحضرها سوى ما يفترض أنه الشاعر وزوجته وأبنائه وربما استطاع اقناع نفر قليل من أهل حيه, ويبدأون بالخروج كما العادة من الدقيقة العاشرة , أما السينما فهي بالنسبة لمتابعي هذه الأفلام فرصة للنوم.
ناقد سينمائي لطيف , اخترع معياراً محبباً, لتقييم فيلم ما. وهو مقدار ما ينام المتلقي أثناء متابعته . بحيث يكون الفيلم أفضل كلما كان زمن النوم أقل, فلو طبقنا هذا المعيارعلى ما نشاهد من أفلام ، لوجدنا أن أزمان نومنا ستكون طويلةً جداً لدى متابعتنا لهذا النمط من الأفلام.
صدفة جمعتني مرة في مرسم أحد كبار الرسامين السوريين والعرب, وكانت إحدى لوحاته قد فازت بجائزة فنية كبرى لدى اشتراكها في معرض في أمريكا, وكان أن عاد شخص ليعرض على الفنان الكبير صوراً للمعرض الذي فازت لوحته به. وكم كانت الدهشة كبيرة عندما اكتشف الفنان أن اللوحة كانت معلقة بصورة مقلوبة, ذلك أن الرسم كان تشكيلياً, بحيث أن الأمر ألتبس على منظمي المعرض , ومع ذلك فازت اللوحة, بعرضها المقلوب , بالجائزة الكبرى.
ضحك الفنان وضيوفه من الواقعة التي تحمل في مدلولاتها الشيء الكثير. وهنا يطرح سؤال, هل كان بالإمكان أن تعرض الموناليزا مثلاً بشكل مقلوب؟ وهل كانت ستلقى أدنى اهتمام فيما لو تم ذلك؟ وهل الأمر فن حقيقي كالموناليزا ، أم تشويش؟ كما في اللوحة الفائزة بالمعرض العالمي؟
سؤل الفنان عاصي الرحباني مرة عن الإبداع والوعي, فأجاب بأنه حين يبدع يكون في أقصى درجات وعيه ولا يسمح لأي عنصر أن يدخل شيئاً من التشتت عليه, كالمخدرات والشراب وسواهما, لأن الإبداع برأيه هو التوجه نحو التثقيف , وليس التشويش.
ربما لا يعجب البعض هذا المنطق لأن كذبة كبرى اخترعها العديد من المبدعين, أن ذلك الإبداع لا يكون إلا في حالات السلطنة التي تأتي بعد مشروب كثير أو مقدار من الحشيش أو المخدر.
سؤال يبدو هاما وخطيرا , ماذا يريد المبدع أن يفعل؟ هل المقصود فقط الإبداع دون النظر لجماهيرية هذا المبدع أي المنتج؟ أم أن الأمر مرتبط بهكذا منتج ، وهنا يبدو الأمر حاسماً. فلكي تنتج شيئاً إبداعياً مهضوماً, عليك أن تجعله مفهوماً للعامة قبل الخاصة, فالمبدع الحقيقي لا يعيش في برج عاجي, ولكي يعرف إبداعه لا بد من كامل الوعي والتوجه نحو التثقيف وليس خلق الإبداعية في الرسم أو الموسيقى أو النحت أو غيرها, ثم التقول عليها بصفة الإبداع, المبدعون هم أناس مثقفون واعون بالحتمية, ولكم في بعضهم خير مثال, كالمتنبي والمعري وغيرهما.