الإبراهيمية كستار للتطبيع السياسي والتزييف الديني
كنيس قِبلته نحو القدس، وكنيسة قبلتها نحو الشرق، ومسجد قبلته نحو مكة؛ في مبنى واحد، بارتفاع وعمق وعرض متساوي الأضلاع، افتتحته العائلة الحاكمة في الإمارات، منتصف الشهر الفائت، وسمحت للزوّار بارتياده في مطلع هذا الأسبوع، وأطلقت عليه، بيت العائلة الإبراهيمية، كرمز مكانيّ لوحدة الأديان السماوية، وهو مشروع بدأ منذ عام 2019 مع توقيع شيخ الأزهر أحمد الطيب وثيقة الإخوّة الإنسانية في أبو ظبي، مع البابا فرنسيس.
لكن البابا فرنسيس فشل في توقيع هذه الوثيقة الإنسانية مع المرجع العراقي السيستاني، عام 2021 خلال زيارته لمدينة أور التاريخية، حيث وُلد نبيّ الله إبراهيم، واكتُفيَ بالإعلان عن يوم للتسامح، بحسب تعبير مقتدى الصدر، الذي استطاع خلال ذلك مع نواب الحشد الشعبي تشريع قانون برلماني ضد التطبيع مع “إسرائيل” بما يُعَرّض المطبّع لعقوبة الإعدام، في تمييز بين التسامح الديني، وبين العبور من خلاله للتسامح مع المحتل العبري.
وثيقة إنسانية، أم ديانة إبراهيمية؟ أجاب شيخ الأزهر، وقد فرّق بينهما، مستنكراً كل محاولة للدمج بين الديانات، أو هي الشرائع السماوية، فالدين واحد وقد ختمه الله بالإسلام وحاكمية القرآن، ليبقى التعايش الإنساني قيمة دينية ثابتة، قائمة على التعاون، ولكن البيت الإبراهيمي الذي افتتحته أبو ظبي، حمل مسجده اسم شيخ الأزهر ذاته، وحملت الكنيسة اسم شريكه في الوثيقة الإنسانية البابا فرنسيس، فيما حمل الكنيس اسم موسى بن ميمون.
وموسى بن ميمون الذي حمل الكنيس اليهودي اسمه، مقصود بذاته، فهو فيلسوف وطبيب أندلسي سبق أن تظاهر بالإسلام في المغرب، تحت حكم دولة الموحّدين سنة 1159، وظل كذلك حتى هاجر إلى القاهرة، ليقرّبه القاضي الفاضل، من الناصر صلاح الدين، بعد أن حماه من حكم الرِدّة بسبب إعلان يهوديته بعد تظاهره السابق بالإسلام، ليصبح طبيبه الخاص، وليقنعه السماح بدخول اليهود إلى القدس، بعد منع الصليبيين لهم من ذلك.
رفض شيخ الأزهر الديانة الإبراهيمية، متشبّثاً بالتعاون الإنساني، باعتبار الدمج الديني وصفة ضد حرية الاعتقاد، وهي الحرية التي كفلها القرآن “لا إكراه في الدين”. وهو التعاون الذي لم يجد له في موطن ولادة إبراهيم، مدينة أور، وثيقة للتوقيع عليها، رغم إصرار البابا على الحج المسيحي الأكبر الذي يبدأ من أور وينتهي في القدس.
إنها القدس إذاً؛ قِبلة المسلمين الأولى، وثاني مسجد بُني في الأرض، وثالث الحرمين الشريفين، وإليها كان إسراء خاتم الأنبياء من مكة، ومنها كان العروج إلى السماء. ولكن البيت الإبراهيمي حصر القِبلة إليها من الكنيس اليهودي دون غيره، وجزم البابا أنها محط الحج المسيحي الأخير، فهي وفق هذه الإبراهيمية؛ ثابتة في التكوين الديني اليهودي والمسيحي، دون الإسلامي.
صراحة هذه الإبراهيمية المدعاة في التزييف الديني، في صلب عقيدة الإسلام، ظهر بالختم الرسمي الديني بسرقة القدس من عقيدة الإسلام، بعد الختم السياسي من الإمارات والبحرين، في تطبيعهما الشامل مع الكيان العبري وعاصمته الأبدية المزعومة في أورشليم/القدس، وقد صدحت عنابرهما بنشيد “هتكفا” الإسرائيلي، وأضيئت فيهما أنوار الشمعدان في عيد الحانوكا. في خلط تام بين الخضوع السياسي الخليجي، وبين الهروب العكسي عبر النافذة الدينية بعنوان خادع “اتفاقات أبراهام”، وقد تبعتهما دول أخرى كالمغرب وتركيا، وكل منهما يا للحسرة في ظل حكومة خلفيّتها إسلامية، بما يضفي مسحة شرعية على هذه الاتفاقات الخادعة.
سبق لملك الأردن أن لجأ للإبراهيمية، غداة اتفاقية وادي عربة مع “تل أبيب” سنة 1994، وقد اعتبرها سلاماً بين أبناء العمومة من لدن نبيّ الله إبراهيم، فهل هذا اللجوء الذي تطوّر للدمج في بيت واحد مع اليهود والنصارى، مجرّد ساتر ومبرّر للتطبيع، أو يحمل في طيّاته مشروعاً يستهدف عموم الأمة؟
“مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”، فما بين الإسلام وغيره مطلق التوحيد أو هو الشرك الذي يمنع وحدة الدين بين هؤلاء الثلاثة، لما هو حرية الاعتقاد وفق التصوّر القرآني، وهي حرية قائمة على الضمير الإنساني في اختبار الحياة الدنيا “فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”. فحرية الاعتقاد مكفولة، لكنها ليست وحدة اعتقاد بحال، ما دام الخلاف الجذري قائماً في ذات الله، وهو خلاف لا يمنع التعايش الإنساني والتراحم الاجتماعي، مع ضرورة المجادلة بالتي هي أحسن بما يفتح آفاق الروح والعقل والقلب.
تجاوزت اتفاقات أبراهام البعد السياسي الصرف، الذي قدّمت له اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، وأوسلو مع منظمة التحرير، ووادي عربة مع الأردن، وهو تجاوز يراد منه عبور قنطرة الصلح مع المحتل الإسرائيلي، على خطورته، لما هو التزييف الديني والتمييع العقائدي، بما لا يطال اليهودي بحال، وهو يتربّع على عرش أسطورته، يفتّش تحت المسجد الأقصى عن هيكل سليمان، لتثبيت دعائم روايته الدينية/التاريخية.
يأتي التمييع والتزييف العقائدي بالضرورة، كأثر لاتفاقات أبراهام، باعتبار الإسلام ضامناً وحدوياً للأمة، وكل عبور على حساب الأمة يتطلب إضعاف اعتزازها بدينها كضامن لوحدتها، بما يساعد على بسط تل أبيب لكامل أسطورتها التوراتية لما بعد خيبر أو هي “دولتك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات”، خاصة في ظل صعود غلاة الصهيونية الدينية. ولعل ما يفسّر هذه الضرورة؛ إلحاح نتنياهو على ضم السعودية لهذه الاتفاقيات، بما تمثله من مظلة إسلامية دينية، والتعاطي السعودي المبدئي مع تل أبيب، عبر مقدمات عديدة، كالسماح لطيرانها باستخدام الفضاء السعودي، والتلميح الدائم لإمكان التحالف معها ضد إيران.
يتفاعل الشره الإسرائيلي للتطبيع، في وقت يحمل في أحشائه النقيض، بما يعيد عمليات التطبيع نحو مربّعها الأول، فالتمسّح بنبيّ الله إبراهيم، لتجاوز الإنكار اليهودي لنبوّة عيسى ومحمد عليهما السلام، يصعب تمريره على دور الفتوى، لهذا أدان الأزهر في القاهرة، كما لجنة الإفتاء في مكة، وحدة الأديان أو الديانة الإبراهيمية، وهو ما صدر أيضاً عن الكثير من المرجعيات الإسلامية في طهران ومسقط والدوحة والدار البيضاء، وشتى البلدان الإسلامية.
جاء الافتتاح الإماراتي للبيت الإبراهيمي يتيماً مكشوفاً، كحال الوفد الإسرائيلي في مونديال قطر، ولعل تصاعد الوحشية الإسرائيلية في القدس وجنين ونابلس، مع بروز الشعار التوراتي اليهودي في التوسّع الاستيطاني، أو محاولة ضم الضفة الغربية في ظل هيمنة اليمين الديني، وتوالي الاعتداءات الإسرائيلية ضد أكثر من بلد عربي وإسلامي، ستؤدي إلى تقليص فرص هكذا خديعة، حتى لو تبوّأ الحبكة فيها أساطين الخبث العالمي في واشنطن ولندن وتل أبيب.
الميادين نت