الإسلام السياسي … سؤال التعددية الثَّقافية والفكرية (فاخر السُّلطان)

 

فاخر السُّلطان

في تجربة الإسلام السياسي مع الربيع العربي، وبالذات تجربة حركة الاخوان المسلمين، والتي كشفت في مواقع عدّة عن حنكة في قراءة الظروف السياسية وقدرة على استغلال تداعياتها، إلا أنها كشفت أيضا عن تمسّكها بآليات الديموقراطية في مواجهة الاتهامات بالفشل في إدارة البلاد. جرى ذلك في مصر بكل وضوح، وإلى حدٍّ ما في تونس. غير أن الظروف والتداعيات أبرزت تجاهل انصار الإسلام السياسي لجانب مهم في الديموقراطية، وهو قيمها، ما جعل الآلية لا تعمل لأجل القيم، أو بعبارة أخرى باتت تعمل لقيم غير واضحة المعالم تجاه علاقتها بالحداثة، قيم لها ارتباط بصور الحياة القديمة التي ولدت وتشكّلت في إطارها الأديان، ما جعل العلاقة بينهما ملتبسة. فلا الآلية قادرة أن تعبّر عن مكنونها، ولا القيم تستطيع أن تتفاعل معها.
فالديموقراطية، إذن، لا تستند إلى آلياتها فقط، ومن ثَمّ لا يمكن أن تنفصل عن قيمها. ولكي يقوم الإسلام السياسي بهضم الاثنين – الآلية والقيم – لابد أن يفتح الباب على مصراعيه لمراجعات فكرية موسّعة تستهدف غربلة المطلق في النص الديني، لكي يسير فهم النص باتجاه التفسير النسبي، أي الفهم القابل للنقد والتغيير والتعديل والتطوير، وصولا إلى الاعتراف بمنتج الحداثة الثقافي في علاقته الشرطية بالديموقراطية، أي الاعتراف بالتعددية الثقافية والتنوع الفكري وحرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الإنسان.
أول المطالب التي تقع على عاتق أنصار الإسلام السياسي لكي يلجوا في معمعة الديموقراطية بصورة تعبّر عن حقيقة ايمانهم بها انطلاقا من مفهوم المراجعات الفكرية، هو العمل على إيجاد علاقة واضحة مع الحداثة في جانبها المتعلق بتعريف الإنسان في حالته الفردية/ الاجتماعية.. أي هل هو مواطن أم عبدُ الله؟.
فلا يمكن للديموقراطية، آلية وقيما، أن تبني علاقتها إلاّ بالإنسان الحر، أي المواطن، لا بالإنسان انطلاقا من كونه عبداً لله في إطار الخلط في داخل تلك العبودية بين الديني الميتافيزيقي وبين البشري الطبيعي، وفي ظل خضوع هذه العبودية لتشريعات رجال الدين باعتبارهم ظل الله في الأرض في مختلف المسائل ومنها الحياتية الخاضعة للعلم والتجربة والصح والخطأ، ما يترتّب على ذلك بروز إنسان غير حر، خاضع للميتافيزيقي على حساب البشري الطبيعي، مطيع لرجال الدين، ليس مواطنا بل جزء من الرعية التي تحتاج إلى راعٍ لا إلى الديموقراطية التي لا تستقيم مع غير الأحرار وتتفاعل في آلياتها مع الحرية لا مع الطاعة والخضوع والسيطرة.
فالإنسان – الفرد، هو أحد استحقاقات الديموقراطية التي ما يزال الإسلام السياسي غير قادر على التعاطي معه، كون ذلك يتصادم مع مفهومي الطاعة والخضوع، رافضا أي محاولات التحرر الفردي من ذلك، وإلاّ أصبح هذا الإنسان خارج منظومة الأمة، ما قد يجعله يفقد مقوّمات الوجود والعيش في المجتمع. فالديموقراطية، بآلياتها، يجب ألا تكون لأفراد "الأمة" فقط، بل لابد أن تكون، استنادا إلى قيمها، لجميع مكونات المجتمع، وهذا لن يتحقق دون الاعتراف بشكل واضح وصريح بمفهوم الإنسان – الفرد.
إنّ السبب في رفض الإسلام السياسي لمفهوم الإنسان – الفرد- لا يستطيع تهيئة الأرضية للإنسان لممارسة اختياراته في طريقة العيش بعيدا عن الوصاية أو السيطرة الدينية. ولابد للإسلام السياسي أن يمهّد في مراجعاته الفكرية الطريق لكي يُطَلِّق تلك الوصاية ويبعدها عن أدبياته، بوصفها لا تتوافق مع قيم الديموقراطية في حرية اختيار طريقة العيش، ولا مع آلياتها في تشريع الحريات المتوافقة مع التعدّدية والتنوّع الثقافي.
فالوصاية أو السيطرة الدينية تهضم مفهوم "الأمة" الخاضع لثقافة شبه واحدة ومعزولة، هي ثقافة "الأمة"، مع الإقرار بوجود بعض الاختلافات في التفاصيل. لكنها تتصادم مع ثقافة الإنسان – الفرد. والديمقراطية من جانبها تنبني على الأمر الثاني ولا تستطيع أن تتعايش مع الأول. أي لا يمكنها أن تمنع الفرد من إبداء رغباته واختياراته المختلفة والمتنوعة الثقافية والاجتماعية بذريعة أن الثقافة الدينية، أو ثقافة "الأمة"، ترفض ذلك. فالرغبة والاختيار ينعكسان في الحرية ويتجلّيان من خلال العملية الديموقراطية، وأي مسعى لوأدهما هو تعبير عن ثقافة العبودية والطاعة والخضوع ما يناهض قيم الديموقراطية.
وحين يصف حكام الربيع العربي المنتمون للإسلام السياسي، في مصر وتونس، الشعوب المناصرة لهم والمدافعة عنهم بـ"الأحرار"، يجب على هذه الصفة أن تكون واقعية وحقيقية ومعبّرة عن حداثة المفردة بما يجعلها تتناسب مع الشأن الديموقراطي، وليس تعبيرا عن الحرية في موقعها الديني التاريخي الضيّق. فالمواطن الحر، ليس هو العبد في إطاره الديني/ الاجتماعي الذي يُطالَب بالحرية في جانب ويخضع للطاعة في جانب آخر، بل هو الذي يسخّر الحرية من أجل مواجهة مختلف صور الخضوع في المجتمع.
هذا لا يعني أن الخضوع سمة دينية فحسب، بل هي سمة مختلف الأفكار الشمولية بما فيها تلك العلمانية التي قد تَستخدم آلية الديموقراطية لتنظيم عملية الخضوع. أو كما قال برتراند راسل "من بين جل الديانات، تصنّف البلشفية مع المحمّدية، وليس مع المسيحية أو البوذية. فهاتان الأخيرتان ديانتان شخصيتان بالأساس، تحملان عقائد صوفية وحبّاً للتأمّل. أمّا المحمّدية والبلشفية، فهما عمليّتان واجتماعيّتان وغير روحيّتين، ومهمومتان بالسيطرة على العالم". قد يَصدُق كلام راسل على الإسلام السياسي، لكنه بطبيعة الحال ليس الإسلام الوحيد المطروح في الساحة، بل هو الأقوى والأشمل.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى