الإسلام والديمقراطية وإدارة التنوع (عصام نعمان)

 

 

عصام نعمان

 

صَعَد الإسلام السياسي مع اندلاع الحراكات الشعبية العربية مطلعَ سنة 2011 . صعوده السريع صاحبه صعود لافت للطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر الأمر الذي أدى تالياً إلى تفعيل ظاهرات الطائفية والمذهبية والقبلية . كيف يمكن تفسير هذه الظاهرات الآخذة بالاستشراء وبتعطيل العيش المشترك داخل المجتمعات العربية؟
الإنسان وجود وهوية . الوجود نتاج الطبيعة والاجتماع البشري . الهوية نتاج الانتماء إلى الاجتماع الثقافي والسياسي في مكان وزمان . إذ يولد الإنسان في اجتماع ثقافي وسياسي معيّن، يجد نفسه وسط دوائر انتماء circles of associations متعددة . ثمة دائرة العائلة، ودائرة العشيرة والقبيلة، ودائرة النقابة والحزب، ودائرة المنطقة أو الإقليم، ودائرة البلد أو الوطن أو الدولة .
الإنسان مدعو الى اختيار دائرة أو أكثر من دوائر الانتماء المتاحة، بل هو محمول على الاختيار . العوامل أو الدوافع التي تحمله على الاختيار هي الحاجة، حاجته أو حاجاته الأكثر إلحاحاً في الزمان والمكان . لعل العوامل أو الدوافع الأكثر تأثيراً وفعالية خمسة: العيش، الأمن، الإيمان، الرعاية، والسيادة (بمعنى السيطرة) .
ثمة دوائر انتماء تحوّلت عبر التاريخ كيانات اجتماعية متميزة وراسخة، كالقبيلة والجماعة الدينية (الطائفة والمذهب) والجماعة السياسية (الحزب) والاجتماع السياسي المتنوع والشامل (الشعب والأمة) وأخيراً وليس آخراً، الإطار الحقوقي الذي يضم كل هذه الكيانات والمكونات، وهو ما جرى التعارف على تسميته الدولة .
لعل أبرز ظاهرات الحياة العربية خلال المخاض المحموم والمعروف باسم “الربيع العربي” أن الانتماء إلى الطائفة والمذهب أضحى متقدماً وغالباً على الانتماء إلى سائر الدوائر سالفة الذكر .
إلى ذلك، لاحظ عالم الاجتماع الدكتور فالح عبد الجبار أن الطائفية لاحقة لقيام الدولة الحديثة، ذلك أن الصراع على السلطة أدى إلى تسييس دوائر الانتماء، بمعنى استخدامها وسائل للوصول إلى السلطة، أو للبقاء فيها، أو للانقلاب عليها . هذا التسييس للانتماء الطائفي أفرز ظاهرة الطائفية السياسية .
أرى أن الطائفية السياسية مصطلح خاطىء . الأصح استخدام مصطلح السياسة الطائفية . ذلك أن الطائفي والطائفية، بمعنى عصبية الانتماء إلى طائفة، فعل طبيعي ومقبول . غير ان الفعل غير المقبول عموماً هو استخدام الانتماء الى طائفة على نحوٍ عصبوي وتمييزي ضد أصحاب الانتماءات المغايرة من أجل أغراض سياسية . من هنا يمكن الاستنتاج أن إلغاء الطوائف وحتى إلغاء الطائفية مطلب غير واقعي وغير مقبول، بينما مواجهة السياسة الطائفية لإضعافها وتعطيلها أمر ممكن ومقبول، بل مطلوب .
ليس دقيقاً القول إن الطائفة ككيان متميز يمكن أن تُمارس سياسة طائفية متطرفة وأن تُلحق ضرراً بالطوائف الأخرى أو تشكّل خطراً عليها، ذلك أن لا طائفة في لبنان ولا في سائر الأقطار العربية شكّلت بحد ذاتها، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، كياناً واحداً متماسكاً وتصرفت في الشأن العام ككتلة صلبة لها إرادة واحدة وسياسة مشتركة . كل الطوائف في العالم العربي منقسمة على نفسها قسمين أو أكثر . بعض الطوائف يمور بصراعات متعددة داخلها اكثر من صراعها مع طائفة أو طوائف أخرى .
أشاطر أستاذ علم السياسة الدكتور انطوان مسرّة مقولته إن مسألة الطائفية هي، في التحليل الأخير، مسألة إدارة التنوع الثقافي والسياسي . لكن، هل ثمة إدارة للتنوع نموذجية يمكن استنساخها وتطبيقها في كل بيئة سياسية وزمان مغاير؟
من الطبيعي والمنطقي أن يتوقف نهج إدارة التنوع وتطويره على الظروف الموضوعية التي يعيشها الاجتماع السياسي في البلد المعني، وهو ما أخذه د . مسرة في الحسبان . مع ذلك، يمكن استخلاص بعض القواعد الممكن اعتمادها، بل الحرص عليها عند اجتراح الصيغة الأفضل لإدارة التنوع، لعل أهمها ثلاث:

* أولاها، ضرورة احتضان كل دوائر الانتماء المتاحة في اطارٍ أكبر منها وأشمل، إطار يتيح تأمين حاجات الناس الأساسية المتمثلة بالعيش والأمن والإيمان والرعاية والسيادة . هذا الإطار الأكبر والأشمل هو الدولة وليس أي كيان دونها حجماً وقدرة وسلطة وفعالية .

* ثانيتها، توفير الحرية بما هي قيمة مساوية للحياة نفسها . ومع الحرية يجب توفير حقوق الإنسان جميعاً بما هي المحتوى الأغنى للديمقراطية المعاصرة .

* ثالثتها، مراعاة خصائص العصر في تركيبة الدولة الحديثة من حيث الحرص على جعلها منفتحة على عالم أضحى قرية صغيرة بفضل ثورة المعلوماتية والاتصالات والمواصلات، ويمارس ويعايش عولمةً واسعة ومتوسعة باتت تشمل معظم نواحي الاقتصاد والعمالة (القوة العاملة والمهارات)، ونزوع مختلف الدول ذات المشترَكات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإقليمية إلى الاتحاد والتعاون في أطُر أوسع، كونفيدرالية أو فيدرالية أو أسواق قارية، لا يقل تعداد سكان واحدها عن 300 مليون نسمة .

إن جمع القواعد الثلاث المنوّه عنها وتأطيرها وتفعيلها في العالم العربي تتطلب رد الاعتبار للعروبة بما هي هوية جامعة والتوجّه بها نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية في سياق صيغة جبهوية تجمع جناحيّ الأمة، العروبيين الديمقراطيين والإسلاميين الشوريين . غاية الجبهة توليف الكتلة التاريخية اللازمة لتحقيق الأهداف الستة للمشروع النهضوي الحضاري العربي: الوحدة (أو الاتحاد)، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، العدالة الاجتماعية، التنمية المستقلة، والتجدد الحضاري .

صحيفة الخليج الأماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى