الإمبراطور ترامب الثالث

 

يعتقد كثيرون أنَّ الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب حالة مؤقتة، وأنَّ غيابه عن مسرح الأحداث مؤكّد، سواء قبل استكمال ولايته أو من خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، كما يعتقدون أنَّ سياساته وتصريحاته أقرب إلى الحماقة، وقد يكون شخصيّة مفارقة لمجمل المنظومة الإمبرياليّة النافذة في الولايات المتّحدة الأميركية.

من جهتي، أذهبُ إلى العكس تماماً، وأعتقد أنَّ ترامب سينجح في الانتخابات القادمة، وقد يؤسّس أيضاً لحكم عائليّ بعده، كما فعل بوش الأب، وأنّه لم يكن يسخر كثيراً عندما قال بعد خسارة التصويت على عزله في مجلس الشيوخ، إنه باقٍ أكثر مما يعتقد خصومه الديموقراطيون.

المهمّ في هذا الاستنتاج، أنّه ليس مفارقاً لمجمل البنية الأميركية والإمبريالية ما بعد الحداثة وما بعد الثورة الصناعية، بل لعلَّه الأكثر تعبيراً عنها، بالاستناد إلى قياس سابق لا يخلو من المغامرة الفكريَّة.

في ذروة الثورة البرجوازية الفرنسية، وحين اعتقد العالم كلّه أنَّ فرنسا الرأسمالية دخلت عصراً جديداً من الليبرالية، تمكّن نابليون الأول من السيطرة على مقاليد الجمهورية، وحوّلها إلى إمبراطورية جديدة، إلى حين سقوطه في الحرب مع خصومه الأوروبيين وعودة فرنسا إلى النظام الجمهوريّ.

بعد عقود قليلة من هذا السقوط، دخل ابن أخت نابليون (نابليون الثالث) معترك الحياة السياسية، وتدرّج في مناصب الجمهورية البرجوازية، قبل أن يحوّل فرنسا من جديد إلى إمبراطورية، ولكنه كان صورة كوميدية لبونابرت الأول وصورته التراجيدية، بحسب قراءة ماركس للحدث الفرنسي في كتابه “الثامن عشر من برومير بونابرت”.

ولنا أن نقول، إذا صحَّت القراءة المذكورة لهذه الدورة الماكرة من التاريخ، إنّ ترامب أقرب إلى نابليون الثالث، أي الصّيغة الكوميدية من تاريخ الإمبريالية الأميركية في ذروة أزمتها، ذلك أنَّ البونابرتية بقدر ما هي ظاهرة رأسمالية، كما النازية والفاشية والداروينية الاجتماعية، فإنَّ تكرارها يكون أقرب إلى الكوميديا السوداء.

ومما يعزّز هذه “المغامرة الفكرية” في قراءة الظاهرة الترامبيّة، أنَّ الميل العام الراهن إلى الأزمنة الإمبريالية الحديثة، هو إعادة إنتاج لليمين بصوره المختلفة، وليس للكينزية (رأسماليّة الدولة).

وقد يجد الحزب الديموقراطي الأميركيّ نفسه أقرب إلى مصير نظيره العمالي في بريطانيا، بل إنَّه قد يخسر أكثر مما خسر في الانتخابات السّابقة، وقد يتقدَّم ترامب على مرشّحه بفارق أوسع في الدورة القادمة.

إنَّ الإمبريالية عموماً، كلّما تقدَّمت إلى الأمام، استعادت طابعها الأكثر نازية وفاشية، على حدّ تعبير المفكِّرة اليسارية روزا لوكسومبورغ، نظراً إلى احتدام أزمتها التكوينية البنيوية وتفاقمها وملاءمة الأشكال الفاشية والبونابرتية لها.

وبحسب قانون التركيب العضوي لرأس المال وتداعيات الثورة الرابعة للأتمتة، فإنَّ التقدّم العلميّ الهائل المرافق للرأسمالية يدفع الملايين خارج سوق العمل، كما يدفع القوى الإمبرياليّة إلى التخلّص من أشكال متزايدة من البنى الصناعية وإحالتها إلى جنوب العالم وشرقه، مثل الصين وغيرها من الحلقات المؤهّلة بنيوياً لذلك، مقابل احتفاظ المراكز الإمبريالية بالأشكال المتقدمة من صناعة التكنولوجيا ولعبة البورصة.

كلّ ذلك قبل أن تدرك الدوائر الإمبريالية أنَّ اتساع المسافة بين خطوط الإنتاج والاقتصاد المعرفي وتكنولوجيا المعلومات يزيد من أزمتها ويعمّقها.

هذا ما حدث مع الرأسمالية الأميركية المأزومة في الانتخابات التي حملت ترامب إلى البيت الأبيض، ببرنامج وهمي لتقليص المسافة المذكورة، وإعادة إنتاج العولمة في ثوب (قومي)، تجلَّت في الانقلاب الأميركي المتسارع على العديد من ركائز العولمة الإمبريالية ومناخاتها، بما في ذلك مع القوى الرأسمالية الحليفة، من المعركة مع الجيران (كندا والمكسيك)، والمطالبة بتعديل اتفاقية “النافتا” معهما، إلى مطالبة الاتحاد الأوروبي بتعديل عشرات الاتفاقيات بين الطرفين، إلى ضرب عشرات الاتفاقيات الدولية بعرض الحائط، بل وهيئة الأمم نفسها ومؤسساتها التي شيَّدتها المتروبولات الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية.

لقد أطاحت الإمبريالية الأميركيّة، وقبل عهد ترامب، بالكثير من هذه الاتفاقيات، مثل اتفاقية “بريتون وودز” (فترة نيكسون)، واتفاقيات المناخ، مثل “كيوتو” وما بعدها، واتفاقية الصواريخ مع الاتحاد السوفياتي السابق، والاتفاقية الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية.

كما أنها لم توقّع أصلاً على معظم الاتفاقيات الخاصَّة بحقوق الإنسان، ومن ذلك البروتوكول الاختياريّ الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الاتفاقية الخاصّة بوضع اللاجئين، واتفاقية منع التعذيب والمعاقبة عليه، واتفاقية التّمييز ضد المرأة، والعهد الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

وعلى الرغم من كلّ ذلك، فإنَّ عهد ترامب تحديداً كان الأكثر تنكّراً لمؤسَّسات الأمم المتحدة، وما يُسمى بالشرعية الدولية، والاتفاقيات والعهود الموقّعة مع المتروبولات الرأسمالية الأوروبية وغير الأوروبية.

ولعلَّ التنكّر لتفاصيل واسعة من اتفاقية التجارة العالمية كمنظِّم للعولمة الإمبريالية، هو الأكثر إثارة للنقاش، لارتباطه بخيارات غير مسبوقة في السياسة الأميركية التي تنحدر بسرعة نحو تدخّلات فظّة ووقحة في الاقتصاد الإمبريالي نفسه، انطلاقاً من استعادة موهومة لبنية النموذج الأصلي للدولة القومية البرجوازية وميكانيزماته، كما أسَّستها اتفاقية “وستفاليا” (1948)، وانعكست في النماذج المتأخرة للبرجوازيات التي نشأت في أعقابها، مثل ألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة.

والأسوأ من كلّ ذلك، أنَّ الإمبريالية الأميركيّة وهي تحاول استدراك تداعيات الثورة المعلوماتية الرابعة والعولمة المتسارعة ونتائجها، واختلاط الأوراق بين المراكز التقليديّة وأطراف عالميّة لم تعد أطرافاً، مثل الصين، تتوَّرط أكثر فأكثر في الخطاب العنصريّ النازيّ ضدّ العمالة الوافدة، على غرار ما فعل ترامب وهو يورط الطبقة الوسطى الأميركية في هذا الخطاب، بعد أن راحت الثورة الرابعة تخرج هذه الطّبقة من السّوق.

إنّ أميركا القادمة هي أميركا ترامب كممثّل للرأسمالية المأزومة بين ثورة تقنية متسارعة وجمهور أشقر يغادر السوق ولا يبقى لديه ما يحافظ على امتيازاته، إلا التواطؤ مع بلاده في مغامرات عسكريّة خارجيّة بقيادة إمبراطور أوحد يشبه كثيراً نابليون الثالث الذي انتهى مهزوماً.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى