الإنتلجنسيا الروسية والمثقفون السوريون: شَبَهٌ ظاهريّ
يبدو المثقفون السوريون الديموقراطيون منذ نصف قرن إلى الآن أشبه ما يكونون بالإنتلجنسيا الروسية في القرن التاسع عشر وصولاً إلى «ثورة أكتوبر» 1917، الأمر الذي يغري بمقارنةٍ مدقِّقة.
«الإنتلجنسيا» هي فئة اجتماعية منخرطة في عمل ذهني معقّد، يهدف إلى لعب دور قيادي في ثقافة المجتمع وسياساته. وهم غالباً أهل فنّ وكلمة لديهم مبادرة ثقافية وسياسية، سواء أكان دورهم الاجتماعي إيجابياً تقدمياً أم رجعياً متخلفاً.
عادةً ما يقيم «الإنتلجنسيون» مسافة واضحة بينهم وبين الجمهور، بخلاف «المثقفين» الذين هم أَمْيَل الى مجاملة العامة والشعب. والإنتلجنسي ذو معرفة أولاً، وذو قدرة على صوغ هذه المعرفة في رؤية للعالم بديلة للوضع القائم، ما يجعله، بالضرورة، أقلية في المجتمع، ويؤهّله لأن يتخلّص من شعبوية عموم المثقفين، فلا يتنازل عن معرفته العلمية برغم انحيازه للقيم الديموقراطية ومصالح الناس.
لعبت الإنتلجنسيا الروسية أدواراً فلسفية ودينية وسياسية وواجهت مصائر مريعة، قتلاً ونفياً وسجناً وانتحاراً، كما حظيت بانتصارات عزّ نظيرها. لعلّ السبب في ذلك كلّه يكمن في تاريخ روسيا الاجتماعي الثقافي، وموقع هذه «الإنتلجنسيا» فيه، تحديداً لناحية الانشقاق الحادّ بين الفئة الحاكمة وهذه الإنتلجنسيا بعد بطرس الأكبر (1672-1725) وإصلاحاته الكبرى. علماً أن الأمر أضيف إلى مشكلة وَسَمَتْ تاريخ روسيا منذ بطرس الأكبر فصاعداً، ألا وهي انقطاع الصلة بين ثقافة الإنتلجنسيا الرفيعة وبين الثقافة الشعبية البسيطة المنتشرة التي كانت في أخفض مستوياتها.
هكذا شهد التاريخ الروسي فئةً لا مثيل لها في التاريخ من حيث التهاب نشاطها، مع أنَّ الاستبداد القيصري الرهيب ورقابته المُحْكَمة كانا يحدّان من قدرتها على إيصال أفكارها لمن يجب أن تصل إليهم؛ فئة تُطْلِق أجرأ الأفكار في بلد إمبراطوري ليست لديه أيُّ تقاليد راسخة في الحرية؛ وفئة ترنو إلى الاستقلال مع أنها ليست في الغالب سوى جزء من الطبقة المعوزة في المدن.
أفضى ذلك كلّه إلى نشوب صراع هائل بين الإنتلجنسيا والحكم المطلق دام أكثر من قرن وعرف آلاف الشهداء والضحايا. ولعلنا نقرأ تاريخ روسيا في القرن التاسع عشر بوصفه سلسلة من محاولات المثقفين، اليائسة والمحزنة غالباً، للاتصال بالشعب. وليس السؤال «ما العمل؟» الذي تطرحه سونيا في رواية دستويفسكي «الجريمة والعقاب» سوى سؤال مصيري يتردد في الأدب والفكر الروسيين محاولاً تهيئة جواب، من شاداييف إلى لينين، مروراً بتشيرنيشيفسكي وروايته الموسومة «ما العمل؟».
قيل عن الروس إنّهم يتناولون الأفكار عاطفياً، فلا يكتفون بدراسة الفلسفة بل يعيشونها، ويرمون من وراء المعرفة النظرية إلى نتائج عملية، ويبحثون في أيٍّ نظرية عن طريقة حياة. أمّا الأدب، فيكاد يشكّل جماع حياة روسيا الفكرية والثقافية. ففي بلدٍ حُرِمَ من المنافذ المتاحة في سواه من البلدان، خاصةً الغربية منها، كان العمل الأدبي حدثاً اجتماعياً وسياسياً على الدوام. وكان تأثيره الأخلاقي والعاطفي أعظم منه في أيّ مكان آخر في أوروبا، حتى إنَّ القصة أو الرواية، التي هي في الغرب وسيلة من وسائل تصوير السلوك البشري، باتت تمتلك في روسيا إيقاع العاطفة النبوية والتغييرية وطرائقها.
ما أراه هو أنّ المثقفين السوريين الذين يُبْدُون للوهلة الأولى شبهاً كبيراً بالانتلجنسيا الروسية، لم يكونوا كذلك في كتلتهم الأساسية إلا سطحياً. ولعلّ السبب في ذلك كلّه يكمن في تاريخ سوريا الاجتماعي الثقافي الذي ستكون لنا مع معالمه الرئيسة وقفة عمّا قريب.
صحيفة السفير اللبنانية