الإنسان ابن بيئته لكنه سيد نفسه
كثيرا ما يستشهد العرب بقصة معروفة في التراث الأدبي، وذلك للتدليل على تأثير البيئة والمناخ في الطباع والسلوك، وهي قصة الشاعر،علي بن الجهم، الذي كان إعرابيا يعيش في الصحراء، وسط بيئة شبه قاحلة، وحين قدم على الخليفة العباسي المتوكل أراد أن ينشده أبياتا بعدما سمع بأن الخليفة يكافئ من يمتدحهه، ولأنه اعتاد على حياة البادية فقد أنشده البيتين التاليين ” أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قِراع الخطوب، أنت كالدلو لا عدمناك دلواً من كبار الدلا كثير الذنوب”.
أدرك المتوكل بفطنته بان ملازمة علي بن الجهم للبادية ترك تأثيره فيما قاله، فأمر له بدار على شاطىء دجلة فيه بستان نضرة يتخلله نسيم لطيف، وكذلك قريب من الجسر حيث يستأنس لمشاهدة العابرين من الناس. وبعد مكوثه في المكان ستة أشهر استدعاه الخليفة مرة أخرى فأنشد هذه المرة شعرا عذبا رقيقا قال فيه:
” عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن سلوت ولكن زدن جمرا على جمر”.
هذه القصة تعطينا دلالة واضحة على مدى تأثير البيئة والمناخ في فكر ومزاج وطبائع البشر.
أطباء وباحثون يبرهنون على تأثير الطقس البارد أو الحار في أمزجة الأفراد والمجتمعات، بمظاهر كثيرة ومتنوعة، تجعل مناطق تبدع في مجال دون آخر، كالرياضة مثلا، إذ أن الألعاب والمسابقات التي ولدت في الشرق كالشطرنج والزهر تمارس “ع الجالس” في البيوت والأماكن المكيفة، ولا تتطلب مجهودا عضليا كبيرا ، في حين أن الألعاب التي ولدت في الغرب تمارس في الهواء الطلق وتتطلب مجهودا بدنيا مضنيا كالتنس والرغبي وكرة القدم وغيرها.
يذهب المؤمنون ـ وبشكل مطلق ـ بنظرية دور البيئة في تحديد السلوك البشري، إلى أن روح المحافظة والكسل شائعة لدى شعوب الجنوب ذات المناخ الحار، بينما تطبع روح المبادرة والتمرد والنشاط البدني سلوك وتفكير شعوب أوربا وشمال أمريكا ذات الطقس البارد والممطر.
الأمر لا يتعلق بمفاضلة بين سلوك إيجابي وآخر سلبي في حالتي البرد أو الحر، فحتى طبيعة الجريمة، والتي هي واحدة في التقييم القانوني والأخلاقي، تختلف من منطقة باردة وأخرى ساخنة، فلقد أثبتت دراسة أكاديمية أجريت في جامعة أميركية، أن الطقس يؤثر في التصرفات الاجتماعية، إذ بيَّنت أن جرائم العنف؛ كالقتل والضرب، تكثر في أيام الحر، لارتفاع إفرازات الأدرينالين؛ الذي من شأنه رفع درجة التوتر، أما البرد، فيساعد على هدوء الأعصاب؛ فتكثر جرائم السرقة والسطو والاحتيال؛ بما أنها جرائم “أقل عنفاً” من تلك التي تحدث في البلاد الحارة.
الأمزجة بدورها تتأثر بالطقس وتقلبات الطبيعة، ولا يمكن ربطها دائما بالحالات الاقتصادية والمعيشية، فكم من سكان المناطق الفقيرة، هم دائما بشوشون ومرحون لمجرد أن الطبيعة قد أغدقت عليهم من كرم جمالها وألوانها ودفء شمسها. وما يعطي الدليل على أن الشخص المرح، يمكن أن يكون فاعلا في محيطه بفضل ذكائه الذي أثبتته دراسة علمية أُجريت بقسمي علم النفس والأنثروبولوجيا بجامعة نيوميكسيكو في الولايات المتحدة الأميركية، وأكدت أن الأشخاص الأكثر مرحاً هم الأكثر ذكاء. وقد أُجريت الدراسة على 400 طالب وطالبة، وتم اختبارهم في الذكاء اللفظي، وكذلك قدرتهم على إنتاج الفكاهة بوضع تعليقات على بعض الصور، فيما كان أصحاب التعليقات الأكثر مرحاً أعلى في معدلات الذكاء.
وتماما على النحو الذي تنبأ به سميث، فإن المناطق الساحلية والمناطق القريبة من الطرق الملاحية المائية هي في الحقيقة أكثر غنى وأكثر كثافة سكانية من المناطق الداخلية. إضافة إلى ذلك فإن مناخ منطقة من المناطق يستطيع التأثير في تنميتها الاقتصادية. فمعدلات الإصابة بالأمراض عند شعوب مناطق المناخ المداري أكبر منها عند شعوب المناطق المعتدلة، كما أن إنتاجيتها الزراعية أقل (وبخاصة الأغذية ذات الاستهلاك الكبير). والأعباء ذاتها تواجهها المناطق الصحراوية. والمناطق الأفقر في العالم هي التي تواجه العقبتين معا، أي بُعد عن التجارة البحرية وبيئة مدارية أو صحراوية.
أما عن الوازع الروحي في المجتمعات، فله علاقة أيضا بالجانب المناخي، فعند انحباس الأمطار، وحدوث الزلازل، والعواصف والطوفان، تجد الناس .
وقد اندفعت نحو دور العبادة يسألون الله أن يرفع عنهم ما هم فيه من كرب هذه العوارض المناخية.