الاتفاق النووي الإيراني: جو بايدن في وضع غير مريح
في ظل التردد الأميركي وحاجة جو بايدن إلى الانكفاء إلى الداخل لمعالجة القضايا الملحة، استغلت الصين هذا الانكفاء المرحلي، لتقوم بسياسة هجومية دبلوماسياً واستثمارياً في المناطق الحيوية في العالم.
جو بايدن
وبالإعلان الأميركي عن المشاركة في تلك الاجتماعات، تكون الإدارة الأميركية قد تجاوزت استراتيجية “التأرجح” التي طبعت مواقفها حيال العودة إلى الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة الرئيس باراك أوباما، وخرج منه دونالد ترامب بشكل أحادي، معيداً فرض العقوبات على طهران، ومتسبباً بكارثة اقتصادية وإنسانية للشعب الإيراني.
يعكس التخبط والتأرجح الذي شهدته مسألة العودة إلى الاتفاق النووي الوضع العام الحرج الذي تعيشه إدارة بايدن في الداخل، والذي ينعكس على مجمل الملفات الداخلية والخارجية، ومنها الملف الإيراني. وتبدو أبرز ملامح هذا الحرج كما يلي:
1– رئيس تقليدي بأجندة تقدمية
لا شكّ في أن الحزب الديمقراطي تعلم درساً قاسياً لا يُنسى في العام 2016، حين أصرّت مؤسساته على ترشيح هيلاري كلينتون والإطاحة بالمرشح اليساري بيرني ساندرز، ما جعل ترامب يكتسح الانتخابات. وفي العام 2020، أدرك الديمقراطيون أنهم لن يستطيعوا الفوز من دون الرافعة “التقدمية” في الحزب، والتي تشكّل عصب الحركات الشعبية وذوي البشرة السمراء والفقراء والمهمشين، ما جعل الطبقة السياسية التقليدية التي يمثلها بايدن تقيم تحالفاً انتخابياً مع السيناتور بيرني ساندرز، عبر “أجندة” للحكم وخطة عمل تعهد بتطبيقها في حال الوصول إلى الرئاسة. وتتضمن تلك الأجندة الكثير مما يعد التقدميون جمهورهم به، كحماية البيئة ورفع الحد الأدنى للأجور والتعليم والصحة للجميع وسواها.
2– إدارة متباينة إيديولوجياً
بعد فوز بايدن، وفي خضمّ تشكيل فريق الإدارة الجديد، حصلت معارك سياسية هائلة بين الجناح التقدمي والطبقة التقليدية في الحزب الديمقراطي، لفرض مرشحيهم وملء المراكز في الإدارة الجديدة. خاض التقدميون معارك طاحنة على المناصب، انطلاقاً من شعار السيناتور إليزابيث وارن بأن “الموظفين هم الساسة”، معتبرين أن على التقدميين فرض الموظفين المناسبين في السلطة التنفيذية، لأنهم يمتلكون سلطة خفض أسعار الأدوية، وتعديل قروض الطلاب أو إلغائها، وتحويل مليارات الدولارات إلى الطاقة الخضراء البديلة وغيرها.
حاول بايدن إرضاء الجميع، فتمّ تشكيل إدارته من تقدميين معتدلين ووسطيين، وجماعات باراك أوباما، ومرشحي المؤسسة الديمقراطية التقليدية الأثرياء، وجماعات اللوبيات في الحزب الديمقراطي، لكن الليبراليين التقدميين انتقدوا خياراته، باعتبارها آمنة للغاية ومعتدلة للغاية ومؤسساتية للغاية، ولأن الشخصيات التي انتقاها تتسم بأنها طاعنة في السن.
لا شكّ في أن الإدارة الأميركية اليوم تتميّز بالتنوع الشامل، ولكن هذا التنوع يشكّل سيفاً ذا حدّين، فهي تعكس التنوع في المجتمع الأميركي من جهة، وتتسم بالتناقض الإيديولوجي بين أعضائها من جهة أخرى، وهو ما ينعكس على العديد من الملفات المهمة، من مثل معركة رفع الحدّ الأدنى للأجور الذي رفض بايدن إدراجه ضمن حزمة المساعدات الشاملة، كما كان يطالب التقدميون، ما جعله يسقط بالتصويت المنفرد عليه كقانون.
3– سياسة خارجية: خطوة إلى الأمام خطوة إلى الوراء
لا شكّ في أن بايدن أرضى الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، من خلال سلسلة من الخطوات التي قام بها خارجياً، كالعودة إلى اتفاقية باريس للمناخ، والموقف من الحرب في اليمن، والعودة إلى منظمة الصحة العالمية، ورفع العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية…
وبعد أن أظهرت استطلاعات الرأي أنه يحظى بنسبة تأييد عالية جداً في حزبه، وأن 86% من الديمقراطيين راضون عن أدائه حتى الآن، يحاول الرجل المحافظة على هذه النسب. لذا، يعمل على إرضاء الجميع. مثلاً، في السياسة الخارجية، وبسبب القلق من التعرض للهجوم من قبل الصقور والمحافظين في الحزب الديمقراطي بشأن عدم الحزم الكافي مع الصين أو روسيا أو إيران، يقوم بايدن بالشيء ونقيضه في العديد من القضايا الخارجية، فهو يريد العودة إلى الاتفاقيات النووية مع روسيا، كما أنه مستعد للتعاون معها، ولكنه يصف بوتين بالقاتل، ويريد العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، إلا أنه يشترط أن يتنازل الإيرانيون في البداية.
دعا الكثير من الصقور في الحزب الديمقراطي ومن مؤيدي “إسرائيل” في الإدارة، إدارة بايدن إلى حرب باردة مع إيران، وإلى ممارسة سياسة احتواء تسقط النظام الإيراني، تماماً كما حصل مع الاتحاد السوفياتي خلال الثمانينيات، لكن الجناح الأكثر اعتدالاً أعرب عن خشيته من أن يقوّض هذا الموقف الأميركي القاعدة المعتدلة والإصلاحيين داخل إيران، وأن يدفعها إلى سياسات أكثر تشدداً ستضر بالولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
وفي ظل التردد الأميركي وحاجة بايدن إلى الانكفاء إلى الداخل لمعالجة القضايا الملحة، ومنها الخروج من جائحة كورونا، والتصدي للعنصرية المتجذرة التي تنذر بقلق أمني واجتماعي، وتحديث البنية التحتية الأميركية التي تحتاجها البلاد في حال أرادت النهوض بالاقتصاد وإعادة التصنيع… استغلت الصين هذا الانكفاء المرحلي، لتقوم بسياسة هجومية دبلوماسياً واستثمارياً في المناطق الحيوية في العالم، وتوقع اتفاقاً تاريخياً مع إيران.
وفي خضم الهجوم الصيني على الاستثمار في الشرق الأوسط وعدم التراجع الإيراني، وبعد التأكد من أن سياسة “الضغوط القصوى” التي مارسها ترامب في الشرق الأوسط أتت بنتائج عكسية، وكانت مضرّة للنفوذ الأميركي ولأمن الجنود الأميركيين في المنطقة، ليس أمام بايدن وإدارته سوى القيام بعملية احتساب المخاطر والأرباح ضمن المعادلة التالية:
أيهما أفضل لأولوياتنا (التعافي الداخلي): بعض التوتر السياسي الداخلي جرّاء العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران، أو خطر الانجراف إلى صراع في المنطقة، قد تستغله الصين وروسيا لتوسيع دائرة نفوذهما في الشرق الأوسط؟
في كل الأحوال، إن تخفيف التوتر العالمي الذي يسمح بالتفرغ للداخل ولجم الصين عالمياً يبدو دائماً الأهم والأكثر ربحاً للأميركيين اليوم.