الاحتقان اللبناني ـ الفلسطيني.. يكشف عجز الجيش ويثير قلقاً مسيحياً
الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي.. والانزلاق نحو الحرب الأهلية 1968 ـ 1975(1)
لم تكن الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) وليدة لحظة بوسطة عين الرمانة. تلك الشرارة، مهّدت لها وقائع وأحداث، بعضها بنيوي مرتبط بتأسيس الكيان اللبناني، ولا سيما مرحلة ما بعد ولادة صيغة العام 1943 (الاستقلال)، وبعضها الآخر متصل بموقع لبنان الإقليمي وتحوله إلى ساحة صراع وتبادل رسائل.
بعد حرب حزيران 1967، أدّى تسلسل الأحداث في لبنان إلى خلق أزمة لبنانية ـ فلسطينية سرعان ما تحوّلت إلى توترات أمنية بين 1968 و1975. هذه التوترات، تحوّلت بدورها إلى صراع مسلح في 13 نيسان 1975.
تمحورت هذه الأزمة حول تزايد عدد اللاجئين الفلسطينيين وتكثيف النشاط المسلّح الفلسطيني على الأراضي اللبنانية. اشتعال المواجهة العسكرية مع إسرائيل وتزايد الاعتداءات الإسرائيلية ضد لبنان ساهما في تفاقم الأزمة. في هذا السياق، تمّ تأسيس ميليشيات تابعة للأحزاب المسيحية تحت شعار «مواجهة الخطر الفلسطيني وحماية الوجود المسيحي». كذلك، تسلّحت القوى القومية العربية واليسارية اللبنانية وتحالفت مع المقاومة الفلسطينية. هكذا بدأت عملية خلق الميليشيات تأخذ مجراها من دون أن تتمكن الدولة اللبنانية من حماية سيادتها ووضع حد للتوترات الأمنية المتصاعدة داخلياً.
يمثل النشاط الفلسطيني المسلّح سبباً من أسباب اندلاع حرب لبنان الأهلية. لكن الخلاف اللبناني ـ اللبناني في شأن هذا النشاط لم يكن شرطاً وحيداً للانتقال من حالة الخلاف إلى حالة الاقتتال الأهلي. فالتباينات السياسية والاجتماعية بين اللبنانيين تمحورت حول أزمة النظام السياسي الطائفي وانعدام العدالة الاجتماعية.
لم تكن تلك التباينات أخف وطأةً من العناصر الخارجية المزعزعة للاستقرار. أما إدارة هذه التباينات، فكانت سيئة لدرجة أن أداء كل من أركان السلطة والمعارضة، المدعومين أيضاً من أطراف خارجية، كان كفيلاً بتعقيد الأزمة السياسية الاجتماعية الداخلية بدلاً من إيجاد حل لها. الأداء غير العقلاني أدى كذلك إلى تأجيج الأزمة اللبنانية ـ الفلسطينية عوضاً عن معالجتها والحد من عواقبها.
البحث في تاريخ الحرب اللبنانية يبقى ورشة واسعة ومفتوحة. المساهمات في هذا الشأن لا تُحصى. ملفات عدة تم فتحها. أسرار كثيرة وخطيرة تم كشفها، وثمة أسرار لم يُكشف النقاب عنها بعد.
برغم ذلك، تستمر الحاجة إلى مضاعفة الجهود من أجل استكمال البحث وفهم جوانب ما زالت مجهولة في تاريخ الحرب اللبنانية. لهذه الغاية، تهدف سلسلة المقالات هذه إلى تسليط الضوء على نظرة الديبلوماسية الفرنسية من خلال مراجعة بعض أوراق ووثائق الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي وعلى موقف فرنسا ودورها خلال المرحلة التي شهدت، بين 1967 و1975، انزلاق لبنان نحو هذه الحرب التي دامت 15 عاماً.
بدأت نشاطات المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني تخلط الأوراق السياسية والأمنية اللبنانية اعتباراً من العام 1967. في تلك المرحلة، كانت فرنسا داعمة لحق العرب والفلسطينيين في استرجاع الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب حزيران 1967. كذلك، كانت في طليعة الدول الغربية التي تطالب بسلام عادل وشامل وتدافع عن حق الشعب الفلسطيني في الحصول على وطن مستقل. حذّرت فرنسا مراراً وتكراراً من أن عدم انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة وعدم تحقيق السلام سيؤدي إلى توسّع الصراع وانتشار الفوضى في كل منطقة الشرق الأوسط. لكن إسرائيل لم تصغ للتحذير الفرنسي ورفضت الولايات المتحدة الأميركية ممارسة أي شكل من أشكال الضغط عليها. هذا الأمر ولّد إحباطاً عارماً لدى الفلسطينيين وعزز ميلهم نحو خيار الكفاح المسلح.
من منظار القانون الدولي، تقر فرنسا بحق الشعوب في المقاومة من أجل تحرير أرضها من الاحتلال. لم يكن باستطاعة الديبلوماسية الفرنسية بالتالي نفي الطابع الشرعي لعمليات المقاومة العربية والفلسطينية ضمن الأراضي المحتلة بعد 4 حزيران 1967. إلا أن فرنسا كانت تخشى من النشاط الفلسطيني المسلح في لبنان، من تداعياته على الاستقرار الداخلي ومن خرقه لسيادة الدولة. هذا ما تبيّنه بوضوح برقيات سفرائها وتقاريرها الديبلوماسية في شأن الوضع في لبنان بين عامي 1968 و1969.
تفاؤل حذر
في خريف 1968، بدأت التوترات بين الجيش اللبناني ومجموعات من الفدائيين الفلسطينيين في الجنوب اللبناني. كذلك، بدأت إسرائيل تشن غارات واعتداءات ضد القرى الأمامية في الجنوب، رداً على عمليات المقاومة الفلسطينية. كان الجميع في لبنان وفي الخارج يترقب تطور ظاهرة العمل الفدائي. وقع الجميع في مأزق. فكيف يتمّ التسامح مع هذه الظاهرة من دون التضحية بالسيادة والأمن، وكيف يتمّ قمعها من دون تعريض السيادة والأمن والوحدة الوطنية لمخاطر بالغة، خصوصاً أن ثمة قوى لبنانية وازنة تؤيد العمل الفلسطيني المسلح؟
في منتصف شهر كانون الأول 1968، حاول سفير فرنسا في لبنان، بيير ميليه، استشراف وجهة مواقف الطوائف اللبنانية تجاه العمل الفدائي الفلسطيني. قراءته تسمح بالاستنتاج بأن توافقاً لبنانياً في شأن الموقف من هذا العمل لم يكن أمراً مستحيلاً آنذاك. فإذا كان «القادة المسلمون، وتحديداً مفتي الجمهورية، يأملون في حل توفيقي» لمسألة العمل الفدائي، أي إيجاد تسوية بين الجيش والفلسطينيين، إلا أنهم لم يكونوا «إطلاقاً مؤيدين لعملية تمركز الفدائيين» في لبنان، على حد قول ميليه.
عين فرنسا على الجيش
وبرغم إدراك السفير الفرنسي لضعف قدرات الجيش في وجه الفدائيين، الذين بدأوا يزدادون نفوذاً وقوةً، إلا أنه كان يرى بصيص أمل لأن «تلاحم الجيش و«لبنانيته» لا يبدوان أمرين متأثرين بالمواجهات» العسكرية التي اضطر الجيش إلى خوضها في جنوب لبنان مع المقاتلين الفلسطينيين. إذاً، تحليل الديبلوماسي الفرنسي في أواخر 1968 كان ميالاً إلى التفاؤل الحذر. فقد خلص إلى أن «عدم التوصل إلى اتفاق سريع، مكلف ومؤقت على الأرجح، (بين الجيش) وفصائل المقاومة (الفلسطينية) ومحرضيها، فإن التوتر الحالي (1968) على الحدود الجنوبية قد يؤدي بسرعة إلى اختبار قوة بين الجيش والفدائيين أو ألى تفشي عدوى (العمل الفدائي)».
سيناريو المواجهة سيكون محفوفاً بالمخاطر «لأن من شأنه أن يعطي إسرائيل ذرائع خطيرة للتدخل وتوجيه ضربات انتقامية» رداً على عمليات المقاومة الفلسطينية. هذا السيناريو سيساهم، من جهة أخرى، في تعزيز طروحات القادة المسيحيين المؤيدة لـ»نشر قبعات زرق على الحدود اللبنانية» أو الساعية لانتزاع «اعتراف دولي بمبدأ حياد لبنان»، كما ورد في برقية ميليه. إذاً، كانت الديبلوماسية الفرنسية تتنبأ بكل ما حصل في لبنان لاحقاً.
الهجوم على مطار بيروت وتداعياته
بعد أقل من أسبوعين من هذا التحليل الديبلوماسي الفرنسي، شنت إسرائيل عدواناً ضد لبنان مستهدفة مطار بيروت، في 28 كانون الأول 1968. تم تبرير العدوان باعتباره رداً على عملية نفذها الفلسطينيون في 26 كانون الأول في أثينا، وليس في الجنوب اللبناني. هذا العدوان، الذي دانه مجلس الأمن في قراره 262 (31 كانون الأول) والذي أثار غضب فرنسا ودفعها إلى فرض حظر تام على بيع الأسلحة لإسرائيل، شكّل صدمة قاسية للبنانيين. ردود فعلهم المختلفة زادت من حدة الفرز السياسي في البلاد. علت أصوات رافضة لاستمرار العمل الفدائي وأخرى داعية إلى الدفاع عنه. على سبيل المثال، كانت البطريركية المارونية تعرب للفرنسيين عن خشيتها من أن «يوجّه الفدائيون، في وقت من الأوقات، سلاحهم ضد المسيحيين»، بحسب برقية لسفير فرنسا أثر لقائه مع أحد المطارنة الموارنة في 25 كانون الثاني 1969. في المقابل، كانت القوى اليسارية تؤيد الانخراط في الكفاح المسلح ضد إسرائيل. هذا التناقض بين الوجهتين السياسيتين تجلى بشكل عنيف في تظاهرة 23 نيسان 1969.
تظاهرة 29 نيسان 1969
في 29 نيسان 1969، نظمت الأحزاب اليسارية اللبنانية والقومية العربية تظاهرة شعبية دعماً للفلسطينيين واحتجاجاً على محاولات القوى الأمنية اللبنانية قمع العمل الفدائي. الحكومة اللبنانية برئاسة رشيد كرامي لم ترخّص للتظاهرة. لكنّ منظميها عادوا وأطلقوها عنوةً، الأمر الذي أدى إلى صدامات دامية بين المتظاهرين وقوات حفظ الأمن في شوارع بيروت (…). فرضت الحكومة حظراً للتجوّل في أماكن التظاهر وأعلنت حالة الطوارئ في كل المناطق. هذه التظاهرة لم تساهم فقط في تعزيز الشرخ السياسي في البلد، بل سلطت الضوء أيضاً على الإشكالية (المستمرة) التي يواجهها الجيش اللبناني: يمارس دوره كاملاً في بسط السيادة وضمان الأمن على كامل الأراضي اللبنانية ويجازف بالتالي في تعريض الوحدة الوطنية للخطر، أم يعجز عن لعب دوره من أجل الحفاظ على وحدةٍ غالباً ما تكون هشّة؟
باريس: «لقد فات الأوان»
سرعان ما بدأ التفاؤل الفرنسي الحذر يتحول إلى تشاؤم. تكوّن لدى السفير الفرنسي الجديد، برنار دوفورنييه، انطباع بأن «لدى غالبية اللبنانيين رغبة، لا يتجرأون على البوح بها، في أن تستخدم الحكومة أسلوب القوة في وجه الفدائيين». لكن تقييم السفير يخلص إلى أن الأوان قد فات، لأن ارتفاع عدد الفدائيين «المنتشرين الآن (في نيسان 1969) في جنوب لبنان بات يجعل حل المشكلة أكثر صعوبة مما كان عليه قبل بضعة أسابيع». فالمشكلة التي تعترض عمل الجيش تكمن، وفق قول دوفورنييه، في أن مهمته لم تعُد محصورة في إضعاف الفدائيين وحسب، بل باتت تشمل «عملية الحفاظ على الأمن في الأحياء السكنية حيث إن الغالبية المسلمة تتعاطف مع الفدائيين».
لذلك، وفي معرض تقييمه لأداء الجيش بمناسبة تظاهرة 23 نيسان، وبعد ثنائه على قرارات الحكومة في حظر التجول وفرض حالة طوارئ، تساءل السفير دوفورنييه عما إذا كان رئيس الحكومة آنذاك، رشيد كرامي، «سوف يسمح للجيش بالاستفادة من سلطاته الاستثنائية من أجل إعادة بسط الشرعية في جنوب البلاد»؟
كرامي يقرر الاستقالة
يعني ذلك أن الديبلوماسية الفرنسية رأت أن الكرة كانت في ملعب رئيس الوزراء اللبناني (كرامي). لكنها لاحظت، في الوقت نفسه، أن رئيس الحكومة كان في موقع حرج. لأن «المسلمين اللبنانيين امتنعوا، حتى الوقت الحاضر (نيسان 1969) عن المشاركة بكثافة في التظاهرات، لكن من غير المستبعَد»، وفق دوفورنييه، أن ينجرّوا في نهاية المطاف إلى الانخراط في الحراك الشعبي الداعم للمقاومة الفلسطينية. هذه التوقعات دفعت الديبلوماسي الفرنسي إلى الشعور بمزيد من القلق من احتمال انزلاق لبنان نحو الفوضى. فالرئيس رشيد كرامي قرر الاستقالة ودخلت البلاد في أزمة حكومية محورها كيفية التعامل مع النشاط المسلح الفلسطيني. أما الجيش، الذي بذل كل ما بوسعه من أجل ضبط أنشطة الفدائيين بفاعلية ومنع تجاوزهم للحدود الجنوبية، بات يواجه مهمة بالغة الصعوبة نتيجة ضعف عديده، على حد تعبير السفير الفرنسي.
يبقى السؤال في معرفة ما تحمله محتويات الأرشيف الفرنسي حول إدارة أزمة تنامي الوجود المسلح الفلسطيني في لبنان بين 23 نيسان وتشرين الأول 1969، أي تاريخ اشتعال صدامات عسكرية عنيفة بين الجيش والفصائل الفلسطينية والتي انتهت بالتوقيع على اتفاق القاهرة الشهير. الحلقة الثانية تسلط الضوء على هذا الموضوع.
صحيفة السفير اللبنانية