الاحزاب العراقية تستغل التوظيف لتوسيع جمهورها
الاحزاب العراقية تستغل التوظيف لتوسيع جمهورها …رأت صحيفة نيويورك تايمز أن نشوء مولات ومتاجر تسوق في بغداد يؤشر تشكل مجتمع استهلاكي مجوف على غرار بلدان الخليج النفطية، لافتة الى ان ذهنية القادة العراقيين، المحبذة لسيطرة الدولة على الاقتصاد بوصفها الراعي الذي يشغل الناس ويعطيهم رواتب عالية، تخلق بيئة غير مواتية للقطاع الخاص، وتقضي على صناعة المشاريع الخاصة في البلد.
وتحدثت الصحيفة عن مشهد مول يحتوي على صالة للصلاة، وآخر يستقبل الزبائن ببشاشة عند المدخل، ويفتشهم، وثالث فيه مطعم راق. وأشارت الى ان هذه الاماكن جيدة للهروب من الحر، وفيها ثقافة اسلامية محافظة، وانها واحدة من الاماكن القليلة التي يتغازل فيها الشباب بوضوح او تدخن فيها النساء السكائر في مكان عام.
المولات على الطراز الاميركي، تنتشر في معظم بلدان الخليج الثرية المجاورة للعراق، جاءت متأخرة لبغداد التي خربتها الحروب، لكن العراقيين يرونها مثل “وادي البنات”، بوصفهم مجتمعا استهلاكيا تغذيه أرباح النفط التي تزدهر في البلد.
المولات الكبيرة تبنى الآن في مناطق العاصمة. وأكبرها سيتضمن فندقا بخمس نجوم ومستشفى، وفي أحدها الذي يعمل حاليا، تصل شاحنة كل أسبوع محملة بـ”بغ ماكس” مجمدة قادمة من مطاعم ماكدونالد في عمان، الأردن.
ازدهار البناء يعد، عموما، دليلا على تقدم العراق وعودته الى الحياة الطبيعية، كما تقول الصحيفة، بعد ما يزيد عن 9 سنوات من الغزو الاميركي و6 شهور على مغادرة آخر القوات الاميركية. لكن الاقتصاديين وخبراء آخرين يرون جانبا معتما. فهم يقولون ان ثقافة الاستهلاك الناشئة هذه تخفي العيوب الاساسية في اقتصاد، كغيره من اقتصادات البلدان الغنية بالنفط مثل السعودية وقطر، تختنق فيه مشاريع انتاجية من خلال الاعتماد فقط تقريبا على الارباح النفطية وملايين الرواتب الحكومية التي تمولها تلك الارباح كجزء من نظام الرعاية الواسع في البلد.
وتقول ماري ايلين بريكنيل، ممثلة البنك الدولي في العراق “اساسا، العراق يحاول بناء مجتمع مستهلك، وليس رأسمالية الدولة مثل الصين، لكن في شكل الاشتراكية”.
وذكرت الصحيفة أن احد اهداف واشنطن الرئيسة كان يتمثل في تطوير اقتصاد السوق الحر في العراق. لكن بتوافر الكثير من الثروة النفطية بأيديهم، اتخذ القادة العراقيون القليل من الخطوات لتطوير قطاع خاص. فما يزيد عن 90 بالمئة من عائدات الحكومة العراقية تأتي من النفط، ومع التوسع السريع في الانتاج النفطي، من الممكن ان تزداد عائدات البلد النفطية الى 3 اضعاف على مدى السنوات الخمس المقبلة، الى ما يزيد عن 300 مليار دولار. ومع هذا النوع من الثروة المتراكمة، فان احد اكبر الاسئلة التي يواجهها البلد هو ما الذي سيفعله بهذا المال النقدي.
وتابعت الصحيفة انه بالنظر لعقلية سيطرة الدولة على الاقتصاد لدى معظم المسؤولين العراقيين وتفشي الفساد، فان هناك ديبلوماسيين يشعرون بالتشاؤم عموما من ان الازدهار المتوقع في عائدات الحكومة سوف يستعمل اما للمساعدة في تطوير قطاع خاص او دفع مرتبات برامج تشغيل طموحة، وهذا أمر يحتاجه البلد حاجة ماسة بوجود 40 بالمئة من السكان لا يحصلون على الماء الصالح للشرب. الا ان بدلا من ذلك، يشعر خبراء بالقلق من ان هذا الحال سوف يمول اشياء اكبر مما موجود لدى العراق الآن: الفساد والقوى العاملة والحكومة الهائلة.
وأشارت الصحيفة الى ان معظم المصانع الكبيرة ما زالت في ايدي الدولة، واكبر طموحات الكثير من العراقيين هو الحصول على عمل حكومي. اذ طبقا لاحصاءات وزارة التخطيط العراقية، فان ثلث القوى العاملة تقريبا يعملون في وظائف حكومية. وهذا يعني انهم يزيدون عن 5 ملايين شخص، وهذا الرقم في تصاعد، بسبب ان الاحزاب السياسية التي تدير الوزارات الحكومية تستعمل التشغيل لتوسيع نطاق جمهورها.
ونقلت الصحيفة عن تودي دوج، وهو استاذ في مدرسة لندن للاقتصاد، قوله في ندوة عقدت مؤخرا في لندن عن العراق، ان “رواتب الدولة توسعت بنحو ضخم، ليس بتكنوقراط انما بموظفين حزبيين، لأن الدولة أصبحت سبيلا لتمويل ولاء هذا الحزب او ذاك”. واضاف “هذا ما يقوض مباشرة قدرة الدولة. وبالتالي لدينا دولة متضخمة”.
ونبهت الصحيفة الى انه بسبب كون رواتب الحكومة اعلى بكثير من رواتب القطاع الخاص، فان الاعمال التجارية المستقلة تمارس عملها في وضع غير مؤات، ذلك ان من بين جملة المثبطات، لا يستطيع اصحاب المشاريع المحتملين توظيف الأيدي العاملة الاكثر مهارة. ويصنف البنك الدولي العراق في المرتبة 153 بين 183 بلدا من حيث سهولة القيام باعمال تجارية.
وتقول بريكنيل ان “بناء مجتمع مستهلك فوق عدم وجود شيء هو أمر يشبه تكوين فقاعة يمكن ان تنفجر في المستقبل”. وتتابع انه بوجود مولات تسوق “فانت اساسا تضع قشرة على نواة متعفنة”.
وعلى الرغم من هذا، بحسب الصحيفة، فان هذه القشرة تبدو في الوقت الحالي شيئا جميلا في مكان عانى ما عانى.
واشارت الصحيفة الى تجربة علي عبود، وهو عراقي يعمل في قطاع العقارات كان قد غادر الى هولندا العام 2006، وعاد مؤخرا ليفتتح مولا بأربعة طوابق مع اخيه. فالطابق الاول سوبر ماركت؛ والثاني يغص بالالبسة، والثالث مليء بالاثاث والاجهزة المنزلية، بينما الطابق الأخير خصص لمطعم ومساحة يلعب فيها الاطفال. وفي اثناء تجواله في طوابق المول، اشار عبود بيده الى أجبان من الدنمارك، وروبيان مجمد من الخليج، وبرغر مجمد ودجاج مقلي.
ويقول عبود ان “الناس يأتون الى هنا ويسألونني عن منتجات ماكدونالدز او كي اف سي”، ويضيف ان “الكثير من العراقيين عاشوا في الخارج”. ولفتت الصحيفة الى عدم وجود سلسلة معينة من هذه الماركات التجارية لها امتياز تجاري هنا. وفي مول يحتوي على فحص امني، يقول علي الساعدي، مدير المول وابن المالك، ان “العراق ما زال مكانا لا يجب ترك الناس فيه من دون تفتيش. فالوضع الامني هو اكبر تحد. والوضع ما زال غير مستقر”.
لمياء الرفاعي، 40 سنة، أم وسيدة أعمال، كانت تتسوق في هذا المول مؤخرا واشتكت من انه ليس كبيرا او مرفها مثل المولات التي زارتها في دبي، او تركيا. لكن في العراق، كما تقول، هذه بداية جيدة، وهي من الاماكن القليلة التي يمكنها ترك أولادها فيه من دون مراقبتهم، وعادة ما تتركهم في عهدة طابق ألعاب الاطفال. فهنا، تضيف، “استطيع رؤية اطفالي يلعبون بامان واحصل على كل ما احتاج من مواد”. وتعقب “العراقيات لديهن مرض تسوق فعلا”.
اما الطابق الخامس في هذا المول فهو مخصص لصالة رياضية وتجميل النساء، والرجال ممنوعون من الوصول اليه. وتقول هدى عبد الله، المالكة، “لدينا صالة رياضية للبدينات اللواتي يردن التنحيف”. وتوضح “اننا نريد ان نصنع شيئا ما مرفها، مثل دبي. فنحن نعيش في مجتمع لا يسمح للنساء بالذهاب الى هذه الاماكن من دون ان تكون فيها خصوصية”.
وعلقت الصحيفة أن هناك مولا ضخما تحت الانشاء في طرف حي الطبقة العليا، المنصور، سوف يزيح اي مول موجود آخر، ويهدف الى ان يكون مكانا للعراقيين ليندمجوا في ثقافة الاستهلاك على الطراز الاميركي، حيث ستباع في متاجره ماركات عالمية مثل احذية ايكو، وبدلات زارا، وملابس تيمبرلاند، وهناك خطط لاقامة مبان لالعاب الفيديو، وعدة صالات عرض سينمائي، واكثر من 12 مطعما، وصالة بولينغ. ولا يبنى هذا المكان ليكون مول تسوق فقط بل ايضا ليكون “منتجعا ترفيهيا متكاملا”.
ويقول ميثم شاكر، رئيس مهندسي المشروع الذي تبلغ تكلفة إنشائه 25 مليون دولار، ويكتتب فيه مجموعة من العراقيين الاثرياء، وتتولى تشييده شركة تركية، ان “الناس يجب ان يستمتعوا”، موضحا ان “الناس يجب ان يكون عندهم نفس الاشياء الموجودة عند اي احد في العالم”.
ولفتت الصحيفة الى ان ثقافة الاستهلاك التي يمولها النفط وتتبدى الان في بغداد لها سابقة تاريخية. ففي كتابها “تاريخ العراق الحديث”، تصف المؤرخة الاميركية فيب مار مسارا مماثلا في عقد السبعينيات عندما “خلق عصر الازدهار بسرعة مجتمعا استهلاكيا يعتمد على التوظيف الحكومي”.
واليوم، يرى بعض الخبراء ان تراكم السلطة بيد رئيس الوزراء نوري المالكي اقترن باتساع العائدات النفطية. ويشعرون بالقلق من ان التاريخ سوف يعيد نفسه. فعقود الازدهار القصيرة الماضية اوجدت جماهير من العموم تعتمد على الحكومة في عيشها ومذعنة لصعود صدام الوحشي، الذي كان يستعمل المنافع النفطية لبناء ترسانة من السلاح ومواصلة حرب كارثية مع ايران.
ويقول حسين الشهرستاني، نائب رئيس الوزراء المشرف على سياسة الطاقة، في اثناء لقاء اجراه معه مؤخرا تقرير العراق النفطي، ان “النفط كان مصدر لعنة على الناس، لان عائداته كانت تستعمل لبناء جيوش، ومهاجمة جيران العراق او مهاجمة الشعب العراقي نفسه، ولم يكن مستثمرا في البنى التحتية وتطوير قطاعات الاقتصاد المتنوعة في البلد”.
والان، كما تقول الصحيفة، تترجم الثروة النفطية الى مولات وعلامات تجارية غربية لدى الكثر من العراقيين.
وتختتم الصحيفة تقريرها بقول مهدي الساعدي، احد مالكي مول المنصور، ان “هذا نوع من الحرية”، ويوضح ان “العراقيين سوف ينفقون المال بطريقة صحيحة. فقد كانوا محرومين من الماركات الكبيرة”.