الاخ الأكبر الذي لا يُحب

 

أفظع ما يظفر به حكم الطغيان هو الوصول إلى تغيير قناعات معارضيه لحساب السلطة الحاكمة من خلال تحويل المعارضين إلى مواطنين مواليين للحاكم المستبد عن قناعة تامة و ليس بهدف إيقاف وتيرة التعذيب الجسدي المبالغ فيه فقط أو على الأقل بهدف إلغاء الصراحة في أسلوب الإحتفاظ الشخص المعذب بعقيدته على طريقة أصحاب التقية مثلا كما حدث لمعارضي السلطة في عهد الحكم العباسي .

غير أن السلطات الحاكمة المعاصرة لم تعد تكتفي بإسكات الأفواه المعارضة و إنما باتت تسعى جاهدة عبر أساليب مستحدثة للتعذيب الجسدي لم تخطر على بال السلطات القديمة بهدف تحويل المعارضين إلى موالين مؤمنين فعلا لا قولا بالسلطة الحاكمة الطاغية ، و نذكر في هذا السياق ما حدث في الإتحاد السوفياتي أيام الحكم الستاليني خاصة ، أو في الصين في عهد ما سمي بالثورة الثقافة التي قادها ” ماو تسي تونغ” ضد رفاقه المخالفين له في الرأي ، أو ما جرى في آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية من إستخدام وحشي لأساليب العنف من قمع وقهر.

و لم تنجُ معظم الأقطار العربية من هذا الوباء ، و هذا ما دفعني حين إجتمعت بشاعر عراقي مشهور بمدائحه لصدام حسين إلى أن أصارحه بمثل هذا السؤال : كيف استطعت أن تقنع نفسك بمدح حاكم طاغية و أنت شاعر كبير ؟ كيف استطعت فيما بعد أن تنسجم مع سمعتك ووجدانك ؟ فأجابني بكثير من المرارة و الحزن : (( معك حق لقد شعرت أنني مهدد إذ لم أمدح و خفت من العقاب فآثرت البقاء في بلدي و قد أغرتني هبات الترف التي أغدقها عليّ الحاكم ..لقد أخطأت مرة واحدة و كانت كافيه في انزلاقي فيما بعد إلى هاوية لا مفر منها .))

ليس هو الموت إذن العقوبة القصوى في مثل هذه المآسي ذلك لأن الأدهى من الموت هو غسل الدماغ أو تخريبة حين يفقد الإنسان فطرة الحرية تحت وطأة الإذلال و الترويع حين يواجه صورة كبرى للحاكم أو ” الأخ الأكبر ” معلقة أمامه في أحد الشوارع العامة الكبرى كما  كان يسمى الحاكم المستبد في الرواية الشهيرة بهذا العنوان الطريف الرقمي ” 1984 ” للكاتب البريطاني المعروف ” جورج أورويل ” كانت صورة الحاكم تملأ معظم الشوارع في الرواية و هو يبتسم للرعية المطيعة و كان بطل الرواية المغسول دماغه بعد تعذيبه القاسي جدا و أساليبه الوحشية و أمده المديد زمنيا يواجه و هو جالس في أحد المقاهي صورة الحاكم الكبرى المبتسم فيقول لنفسه : (( أي سوء فهم قاسي لا داعي له ؟ ! و أي نفي إرادي عنيد للنفس من ذلك الصدر المحب ؟!)).

هكذا تتحول قناعة السجين المعذب حين كان يعتقد أن حاكم بلده طاغية كريه إلى قناعة جديدة ترى من خلالها الحاكم ذاته رجلا طيبا محبا لأبناء شعبه كما تقول الأسطر الأخيرة لتلك الرواية المذهلة : (( و على الفور أحس و نستون بدمعين لهما رائحة ” الجن ” )) الذي كان يشربه بعد إخلاء سبيله على رصيف أحد المقاهي ، دمعتين تسيلان على جانبي أنفه .. لكن لا بأس …لا بأس لقد إنتهى النضال و انتصر المواطن المعارض للحكم أخيرا على نفسه …وبات يجب الأخ الأكبر ..)).

هذا ما حاوله جاهدين الحكام الطغاة العرب عبر تاريخنا الطويل الحافل بأحداث التعذيب الوحشي مثل سلخ جلود المعارضين للحكم أو قذفهم أحياء في التنور المشتعل و غيرها من أساليب لا تصدق . تاريخ سحيق من أقدم العصور إلى أحدثها حافل بالحكام الطغاة حتى في الهزائم التي حولها بعض الحكام العرب المحدثين إلى إنتصارات !.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى