
باريس- فرنسا
ليست الأسرة جدراناً وسقفاً فحسب، بل هي الحضن الأول الذي يتشكّل فيه القلب، وتُصاغ فيه الروح، وتُبنى على أساسه الأمم. فحين تستقرّ الأسرة ينهض المجتمع، وحين تُمنح الأبناء رعاية صادقة يشرق الغد، لأن الاستثمار فيهم ليس تجارة تُربح أو تُخسر، بل هو صناعة إنسان قادر على أن يحمل شعلته في ليالي الحياة المعتمة.
إن الاستثمار الحقيقي يبدأ منذ اللحظة التي يفتح فيها الطفل عينيه على وجهٍ يبتسم له، وصوتٍ يربّت على خوفه، ويدٍ تلتقطه قبل السقوط. يبدأ حين نغرس في قلوبهم حبّ التعلم، فلا يكون العلم عبئاً بل رحلة كشف واكتشاف، وحين نفتح أمامهم أبواب القراءة ليعبروا منها إلى عوالم لا تنتهي، تتسع معها مداركهم، وتنضج عقولهم، ويتعلمون أن التفكير نور لا ينطفئ.
لكن أعظم دروس الحياة لا تُكتب في الكتب. إنها تُكتب في العلاقة التي يبنيها الوالدان مع أبنائهم؛ علاقة محبة وواجب، مسؤولية وحنان، علاقة تُغرس فيها قيمة الوفاء، فيكبر الأبناء وهم يعرفون أن ما قُدّم لهم دينٌ في أعناقهم، وأن الأيام ستعيد إليهم ما زرعوه في طفولتهم.
وقد علمتني الحياة، من خلال ما رأيته بأمّ عيني، أن الأبناء مرآة لصورة ما قُدم لهم. فواحد من جيراني ابتُلي بالإدمان على الخمر، وكانت لياليه كلها تيهاً وسُكرًا. يترنّح في الشوارع حتى ينهك، فيستلقي على الرصيف كغريب فقد طريقه. لكن العجب ليس في سقوطه… بل في ابنه الذي كان كل ليلة يخرج يبحث عنه كمن يبحث عن قلبه الضائع. يجده، يرفعه عن الأرض، يسنده على كتفه، ويعود به إلى البيت. يساعده على الاستحمام خوفاً من أن يتعثر، ثم يضعه في سريره، دون تذمّر ولا سخط، وكأن الله قد وضع الرحمة في قلبه لتكون دليله. كان يعيش معنى قوله تعالى: “وبالوالدين إحساناً” وكأنه خُلق لأجلها.
وفي الطابق العلوي من شقتي، كنت أسمع كل ليلة صوتاً آخر… صوت شجار بين زوج وزوجة. زوج يريد أن يبرّ أمه العجوز، وزوجة ضاقت ذرعاً بمرضها وضعفها، فأصرت على طردها بحجة أنها عبء ثقيل. وحين طال النكد وكثرت المعارك، خضع الزوج، وانكسر قلبه، ووضع أمّه في مأوى العجزة، وحيدِة بعد عمرٍ قضته في السهر عليه.
هاتان الحالتان جعلتاني أقف طويلاً أمام نفسي، أسألها:
أين ذهبت الإنسانية؟
أين اختفى الوفاء؟
كيف يهون تعب الوالدين، وكيف تُنسى ليالي السهر، وكيف يتبدد كل ما بُني في الطفولة؟
عندها أيقنت أن الاستثمار في الأبناء ليس دروساً ولا كلمات، بل هو روح تُزرع، فإن أُحسِن غرسها أثمرت قلوباً تُبكيك حناناً… وإن أُهمِلَت أثمرت قسوةً تُبكيك ألماً.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة



