سؤال فرض نفسه على المفكرين المسلمين والعرب وغيرهم في العقود الأخيرة، بحثاً عن أسباب تقدم الغرب وتأخر المسلمين عن ركب الحداثة وتعليلاً لامتناعهم عن الاندماج بالركب الحضاري العالمي، فالعديد من دول العالم غير الإسلامي لحق بالحضارة الغربية في جنوب شرق آسيا وفي أميركا اللاتينية، بينما دول العالم الإسلامي بقيت متخلفة عن التقدم التكنولوجي والصناعي الذي شهده العالم في القرن الأخير، ما اضطر عدداً من المفكرين إلى القول بأن المسلمين والإسلام هم حالة استثنائية في الثقافة والأيديولوجيا والنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وأخيراً في الاستثناء الديني، ولعل الاستثناء الأخير، أي الديني، هو السبب في صناعة كل الاستثناءات السابقة من وجهة نظر أولئك المفكرين، الذين تعمقوا في البحث عن أسباب ظاهرة الاستثناء العربي أو الاستثناء الإسلامي، بالرغم من توافر ظروف مناسبة للعديد من الدول الإسلامية للتحديث والتقدم، بحكم وقوعها تحت الاحتلال والاستعمار لأكثر من قرن، واتصالها المباشرة بالقيم الغربية، ولكنها بدل أن تستفيد من الاستعمار وقيمه الثقافية والعصرية، خلقت لنفسها ثقافة معادية للعصر وثقافة مقاومة للاندماج الحضاري، من خلال دعوتها إلى الأصولية والسلفية والتمسك بالهوية التراثية، فاستعصت على الهضم والذوبان في أمعاء المستعمرين أولاً، ولكنها فقدت فرصتها للنهوض العصري والاستفادة من التقدم الهائل للحضارة الغربية.
وبالرغم من كل المحاولات المحلية والعالمية لكسر هذه الهوة بين الثقافات والحضارات الإسلامية والعربية، والتي بلغ عمرها أكثر من قرن تقريباً، إلا أن التباين واضح والاختلاف ظاهر، والدعوة إلى الصدام مع الحضارة الإسلامية لا تنفك تعلو بين الفينة والأخرى في الشرق والغرب معاً، وهذا يعيد الحديث عن الاستثناء الإسلامي عن باقي العالم مرة أخرى، فهل حقاً أن التدين الإسلامي يمثل استثناء دينياً؟
بعض المفكرين يعزون ذلك ليس إلى التدين الإسلامي فقط ، وإنما إلى الأديان الكتابية كلها، وبالأخص اليهودية والمسيحية والإسلام، وسبب ذلك في نظرهم أنها تمتلك ثقافة مدونة ثابتة، وكلما جرت محاولات لتحسينها أو تطويرها لتناسب أزمنتها المتقلبة والمتقدمة وتحديثها، جرت محاولات أخرى من المتدينين في الدعوة إلى الأصولية والسلفية والتمسك بالكتب المقدسة بكتاباتها الأولى وتفسيراتها التراثية والتاريخية، والتي تُنسب للمتدينين الأوائل الذين لا يحمل التاريخ عنهم إلا الصفاء والنقاء والتقوى والإخلاص والأخلاق الجميلة والتضحيات الكبيرة والبطولات العظيمة.
والإسلام، بحكم كونه واحداً من الأديان الكتابية، لا يخرج عن هذا المسار التقليدي، بالتمسك بالتراث والأصولية والسلفية وبناء فكر الأجيال المتعاقبة فيه على أسس هذه المدونات الكتابية، بل هناك من يرى أن شعوب المسلمين من اكثر الشعوب المتدينة بين أتباع الديانات الكتابية تمسكاً بالنصوص الدينية والسلفية، ومن أكثر الشعوب العالمية عودة إلى مراجعها الدينية لتقرير حاضر أبنائها ومستقبلهم أيضاً، وأن الشعوب المسيحية واليهودية كثيراً ما تحررت من قيودها الدينية الكتابية التراثية والتاريخية، بل إنها لم تستطع أن تبني نهضتها الحديثة في أوروبا إلا بعد تحررها من ضغوط النصوص الكتابية وتجاوزها في عملية الإصلاح الديني من المراجع الدينية الكنسية السلفية، وكذلك الشعوب اليهودية لم تستطيع الخروج من الغوييم الأوروبي ولا بناء دولة حديثة في العصر الحديث إلا بعد تغلبها على الأصولية الدينية الأرثوذكسية السلفية. وعليه، فإن طريق النهضة عند المسلمين في نظر البعض، لن يتم إلا بالعمل على كسر الاستثناء الإسلامي والعربي، وذلك في صناعة القناعة بالقيم العصرية في الحضارة الغربية الأوروبية والأخذ بمناهجها الحداثية، وفي متابعة الشعوب العالمية في تحررها من تراثها وسلفيتها، وفي إرساء العلمانية، التي تساوي بين المواطنين كافة في الحقوق والواجبات، وإلا فإن التخلف والتراجع الثقافي والصناعي سيبقى ديدنَ هذه الأمة التي تتمسك بالاستثناء السلبي، وهي تظن أنها بذلك تحافظ على ذاتها وهويتها وقوميتها ودينها ومذهبها المستقيم.
وفي المقابل، فإن هناك من يرى أن الاستثنائية الإسلامية لها ما يبررها ليس في الحفاظ على الذات والهوية فقط، وإنما بحكم ان كون الإسلام خاتم الأديان والرسالات الإلهية، وهذا أمر لم يقرره الناس بأنفسهم، وإنما هو شأن إلهي، بأن جعل الإسلام آخر الديانات، وهو أمر متفق عليه من الناحية التاريخية والزمنية حتى في نظر من لا يؤمنون به، وبالتالي فإنه في نظر من يؤمنون به يملك حقيقة الختام والدرس الإلهي الأخير للبشر كافة، ومن الخطأ أن يتنازل أصحاب الرسالة الأخيرة عن التمسك بالحق الذي جاء في الخاتمة، وكذلك فإن القيم التي تتم الدعوة إليها على أنها قيم الحداثة والتقدم والحضارة الغربية، لا يحق لها ان تكون قيماً كونية منفردة في صنع حضارة عالمية ومعولمة، لأن من حق الآخرين الاتفاق والاختلاف معها أولاً، ومن حقهم المشاركة في صناعة الحضارة العالمية ثانياً، وهذا ما يرفضه فلاسفة الغرب ودهاقنة الرأسمالية الأوروبية والأميركية، ورفض دهاقنة الثقافة الغربية مشاركةَ غيرهم إياهم المائدةَ العالمية نفسَها، هو في نظر هؤلاء المفكرين جَوْر وهيمنة وإقصاء واستثناء صريح، ودون وجه حق فلسفي أيضاً، لأن قيم الغرب العصرية والحداثية هي قيم مرحلية قابلة للتغيير والتطوير والتحسين، وبالتالي فإن القياس عليها والقياس على ما ينتجه الغرب بعدها…
وهكذا دواليك، يجعل الشعوب الأخرى غير الغربية شعوباً مستثناة من التفكير الإنساني والإنتاج الثقافي، أي أن الغرب هو الذي يستثنيها وليست هي التي تستثني نفسها من شعوب العالم وقيمه الحداثية، وبذلك لا تصبح فكرة الاستثناء الإسلامي تهمة خاصة بالمسلمين وحدهم، وإنما تصبح الاستثنائية نوعاً من الاستعلاء الغربي على الشعوب غير الأوروبية الأصول والفروع، وهذه عودة إلى الحديث عن فروق ثقافية طبيعية بين الشعوب لا تختلف عن الدعاوى التاريخية التي وجدت في الغرب في الماضي القريب وكانت تدّعي عراقة الدماء الأوروبية الآرية أو الأنجلوسكسونية وطهارتها، في مقابل حقارة دماء شعوب أخرى ودناءتها، في طبيعتها الوجودية وليس تطبعها فقط.
وبذلك، فإن فكرة الاستثناء لا تبدو سلاحاً فكرياً مجدياً في عملية تحريك نهضة أمة أو شعوب هي نفسها غير راضية عن حالها، ويجعل محاولة البحث والتفاعل مع مناهج أخرى أكثر قدرة على النجاح فعلاً. وبالنظر إلى بعض النماذج الإسلامية العالمية، فإننا نجد أن النموذج الماليزي والأندونيسي والتركي وأمثالها قد سارت في خطوات جيدة وصحيحة في اتجاه النهضة والتقدم الصناعي، بل والتنافس العالمي، والقاسم المشترك بين هذه الدول هو ارتفاع نسبة الحرية الفردية والاجتماعية والسياسية فيها، أي أنها دول حرة في تفكيرها وفي تقرير مصيرها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وليس فقط أخذها القيم الأوروبية، بل القاسم المشترك الآخر لهذه الدول وهي في أوج تقدمها المرحلي، أنها لم تصنع قطيعة مع دينها ولا مع تراثها ولا مع قوميتها ولا مع ثقافتها وعاداتها وتقاليدها، بل هي أكثر نجاحاً من الدول الاسلامية الأخرى التي تتعثر في صناعة التوافق بين بناء الدولة العصرية الحديثة مع أحزابها السياسية ذات المرجعية الدينية، أي أن الحرية الفكرية والاجتماعية والسياسية هي التي تصنع النهضة والتقدم والحداثة وليس كسر الاستثناء ولا التعلق بالأسباب الثانوية على حساب الأسباب الأساسية.