الاستراتيجية الأمريكية في الحرب علي “داعش” وحدود الفاعلية
تنطلق هذه المقالة من فرضيتين أساسيتين، تتمثل الأولي في أن محددات الاستراتيجية الأمريكية في الحرب على تنظيم “داعش” هي أحد المعوقات الرئيسية لنجاح هذه الحرب. بينما تتمثل الأخرى في أن فشل الاستراتيجية الأمريكية يصب في مصلحة تمدد “داعش”، واستمرار بقاء نظام الأسد، فضلا عن زيادة النفوذ الروسي والإيراني في منطقة الشرق الأوسط.
ستحاول هذه الورقة عرض محددات الاستراتيجية الأمريكية في الحرب على “داعش”، والبحث في الأهداف الأمريكية من هذه الحرب، ونقاط الاتفاق والاختلاف بين الاستراتيجية الأمريكية، وبعض القوي الكبري والإقليمية، فضلا عن عرض الثابت والمتغير في الاستراتيجية الأمريكية، وصولا إلى تقييمها.
أولا- محددات الاستراتيجية الأمريكية في الحرب على “داعش” .. الآليات المفقودة:
في شهر سبتمبر من عام 2014، أعلن الرئيس الأمريكي عن استراتيجية شاملة مضادة للإرهاب للتصدي لـ “داعش” في العراق وسوريا Comprehensive Counter-terrorism Strategy. وتتكون هذه الاستراتيجية في السياق السوري من جانبين، الأول هو تشكيل تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة لشن هجمات جوية على “داعش”، يكون الهدف منها إضعاف التنظيم وتدميره والآخر هو تخصيص مبلغ 500 مليون دولار من الكونجرس لتدريب مقاتلين معارضين يتسمون بالاعتدال في سوريا.
1- أهداف الاستراتيجية الأمريكية في الحرب على “داعش” وتوجهاتها:
يمكن وصف أهداف هذه الاستراتيجية بأنها ذات شقين، أولهما: شق عسكري تمثل في المحاور الآتية:
- إقامة تحالف عسكري دولي وإقليمي لغرض مواجهة التنظيم.
- الاعتماد على التدخل العسكري المحدود الذي يقوم على الضربات الجوية، والنشاط الاستخباري والعمليات الخاصة المحددوة، وتجنب التدخل البري الواسع.
- تسليح القوات البرية الحليفة، وتدريبها، وإسنادها، مثل الجيش العراقي، وقوات البيشمركة الكردية، وبعض قوي المعارضة المعتدلة السورية.
وتضمنت هذه الخطة ضربات جوية ضد التنظيم، وذلك بالعمل والتنسيق مع الحكومة العراقية، وإرسال قوة تدريبية إلى العراق، دون أن تكون لها مهام قتالية، على أن تنضم إلى نحو 1150 جنديا آخرين. كما كشف عن زيادة المساعدات العسكرية المخصصة للمعارضة السورية، وتقديم مساعدات إنسانية للمتضررين من أعمال “داعش”.
وقد بدأت العمليات العسكرية يوم الثلاثاء 23 سبتمبر 2014 ضد التنظيم، حين قامت قوات التحالف، بقيادة الولايات المتحدة وبدعم من بعض الدول العربية، بأول هجمات جوية في سورية والعراق.
أما الشق الآخر للاستراتيجية، فهو دبلوماسي سياسي، حيث “تبنت الولايات المتحدة عددا من قرارات مجلس الأمن الدولي، ومن ضمنها القرار 2170 في أغسطس 2014، والقرار 2178 في سبتمبر 2014 لجعل العقوبات الدولية أكثر رصانة، وإيقاف تدفق المقاتلين الأجانب والأموال لتنظيم “داعش”، وجبهة النصرة التي تنشط في سوريا، بوصفها فرعا من تنظيم القاعدة. وعقدت الإدارة الأمريكية في فبراير 2015 قمة عالمية لمواجهة التطرف، استهدفت جلب زعماء محليين ودوليين لمناقشة سبل مواجهة الأيديولوجيات المتطرفة والقائمة على الكراهية التي تؤدي إلى نشر التطرف، وتعبئة المتطرفين، وإلى الممارسات العنيفة. وسعت الحكومة الأمريكية إلى الدخول في ائتلاف دولي وإقليمي يعكس مفهوم أوباما عن أولوية العمل الجماعي، وضرورة أن يتحمل الشركاء مسئولياتهم”.
لكن في أكتوبر 2015، ذكر المتحدث باسم البيت الأبيض، جوش إرنست، أن الولايات المتحدة سوف ترسل مستشارين أمريكيين لمحاربة مسلحي “داعش”، مما سيعزز استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية على الأرض، عبر تقديم المشورة والدعم، وليس القتال المباشر. وشدد إرنست -خلال مؤتمر صحفي- على أن الرئيس باراك أوباما يعارض تدخلا عسكريا يفرض تغييرا سياسيا في سوريا، وأن الإدارة الأمريكية لن ترتكب الخطأ الذي ارتكبته الإدارة السابقة في العراق. وتابع: مهمتنا في سوريا دحر “داعش”، وليس تغيير الأنظمة السياسية، كما حدث في العراق. ونقلت تقارير إخبارية عن مسئول كبير في الإدارة الأمريكية قوله إن أوباما أجاز نشر عشرات من أفراد القوات الخاصة الأمريكية في شمال سوريا. وحسب المصدر ذاته، فإن عدد القوات الخاصة التي سيتم نشرها في سوريا سيكون أقل من 50 عنصرا، ستكون إسهاماتهم في الحرب على “داعش” من خلال القيام بمهام استشارية.
ويري البعض أنه “وعلى سبيل المقارنة، فخلال الحملة الجوية لعملية عاصفة الصحراء التي استمرت لمدة 42 يوما ضد صدام حسين في عام 1991، قامت المقاتلات والقاذفات بشن 48224 غارة جوية، أي بواقع 1100 غارة يوميا. وبعد اثني عشر عاما، بلغ متوسط الطلعات الجوية في الحملة الجوية الخاصة بعملية “حرية العراق” أكثر من 800 غارة جوية يوميا. وحتي الغارات الجوية في حملة كوسوفو عام 1999، وهجمات 2001 التي استهدفت جماعة طالبان في أفغانستان، فاقت الغارات الجوية التي شنت في عملية الحل الجذري، إذ بلغ متوسط هذه الحملات الجوية 138، و86 طلعة جوية، على الترتيب. ووفقا لما ذكره الفريق متقاعد ديف ديبتيولا، نائب رئيس الأركان الأسبق للاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، فإن هذا الاستخدام المحدود للقوة الجوية لتدمير “داعش” يثير عدة تساؤلات بخصوص الأهداف التي تتبناها الإدارة. فلا يزال الهدف غير واضح، خاصة منذ استخدام القوة الجوية حتي اليوم. ورغم أنها دقيقة وفعالة بشكل كبير بقدر ما تم استخدامها، فإن درجة استخدامها محدودة جدا، مقارنة بقدرات الاستخدام التي يمكن أن تكون للقوة الجوية. ولذلك، هناك الكثير من الارتباك بشأن ما هي أهداف الأمن القومي الأمريكي المهمة التي تسعي الولايات المتحدة إلى تحقيقها اليوم من خلال استخدام هذه القوة”.
2- جدل الداخل وانعكاساته على الاستراتيجية الأمريكية:
في الخامس من فبراير عام 2015، “أصدرت الإدارة الأمريكية ثاني تقرير يحدد استراتيجية الأمن الوطني NSS منذ تولي الرئيس أوباما منصب الرئيس، وتضمن التقرير تأكيد التزام الولايات المتحدة بقيادة تحالفات دولية لمواجهة التحديات الكبيرة الناشئة عن العداوات، والإرهاب، والأمراض. يشير التقرير في القسم الخاص بمواجهة الإرهاب إلى أن الولايات المتحدة تخلت عن النموذج القائم على الانغماس في الحروب البرية المكلفة والواسعة النطاق في العراق وأفغانستان، والتي تحملت فيها القوات الأمريكية أعباء هائلة. بدلا من ذلك، يقول التقرير إن الولايات المتحدة أخذت تتبع نهجا قابلا للاستمرار يعطي الأولوية لعمليات مكافحة الإرهاب ذات الأهداف المحددة، والجهد المشترك مع شركاء مسئولين، والعمل بصورة متزايدة على منع نمو التطرف العنيف، وتصاعد النزعات الراديكالية التي تصنع تهديدات جديدة .. يمكن تلمس عناصر مهمة مما يمكن تسميته بمبدأ أوباما في السياسة الخارجية، وهو مبدأ يبرز أولا اتجاهات التيار غير الانغماسي للمدرسة الواقعية، ويمثل ثانيا محصلة للتجربة المكلفة والصعبة للحرب في العراق. ومن المعروف أن هناك اتجاهين فكريين متصارعين فيما يخص تحديد الدور الأمريكي في الشئون الدولية: الاتجاه التدخلي، والاتجاه الواقعي. يدفع التدخليون باتجاه دور أكبر في الشئون الدولية، وانخراط سياسي وعسكري أوسع، ويعتقدون في أن مصلحة الولايات المتحدة ومثلها تتطلب العمل لصوغ النظام العالمي، وحمايته من الأخطار التي تهدده، والعمل بصورة منفردة، كلما تطلب الأمر ذلك”.
الأمر الآخر أن أوباما ومستشاريه المقربين، بالأخص بن رودس الذي يكتب خطاباته في السياسة الخارجية، وسوزان رايس، لديهم موقف ضد الحرب، ويعتقدون في أن أوباما تم انتخابه لإنهاء الحروب، وليس لبدء حروب جديدة.
3- صراع القوي الإقليمية والدولية: المواقف والرؤي:
كان لميلاد الحرب على “داعش” الفضل في تأجيج الصراع الإقليمي في المنطقة، والذي تبلور وأصبح واضحا للعيان بعد تدخل روسيا العسكري في سوريا، ودعمها لنظام بشار الأسد، وقصفها لمواقع المعارضة السورية المعتدلة. فهناك مجموعة من اللاعبين في الشام، على رأسها إيران، والنظام السوري، وحزب الله، ومن ورائها روسيا الاتحادية، التي عززت من وجودها العسكري المباشر في مدن الساحل السورية، خصوصا اللاذقية وطرطوس، وقامت بمجموعة من الهجمات الجوية بدون تنسيق يذكر مع التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة، فضلا عن إرسالها لمجموعة من الخبراء العسكريين إلى سوريا. وكانت الخطوة الأخيرة الروسية هي التنسيق مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لتوسيع الهجمات الروسية على تنظيم “داعش”، وهو الأمر الذي أثار القلق من أن هناك شكلا ما من التحالف في طور التشكل يتكون من: روسيا، والعراق، وسوريا، وحزب الله، وإيران، ينافس التحالف الذي تقوده أمريكا ضد “داعش”. لكن كل هذه الأطراف وإن اتفقت على أن “داعش” خطر يهدد الأمن والسلامة المحلية والإقليمية، فإن هناك اختلافا في طريقة التعاطي. فالتحالف الذي تقوده روسيا يري أن كل من يعادي نظام بشار الأسد هو “إرهابي” تجب مقاتلته، وهو ما بدا من خلال استهدف الجيش السوري الحر في مدن إدلب، وحماة، وحمص. وهذا ما يفسر تراجع الاستراتيجية الأمريكية بشأن اشتراط تنحي الأسد، والقبول بمرحلة انتقالية. فالوصول إلى أي اتفاق بشأن ترتيبات المنطقة يمر عبر البوابة الروسية. وفي حين يري التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، أن العدو هو “داعش”، وجبهة النصرة، فإن التحالف الروسي يري أن أي تنظيم يحارب الأسد هو العدو. وبخصوص شكل انتهاء الأزمة، فإن التحالفين الأمريكي والروسي وإن اتفقا على ضرورة القضاء على “داعش”، فإن طريقة تعاطيهما متباينة. فبينما تري روسيا أن القضاء على “داعش” يتم عبر دعم وتقوية نظام بشار، تري الولايات المتحدة أن القضاء على “داعش” يكون برحيل الأسد، ودعم المعارضة المعتدلة.
ثانيا- تقييم الاستراتيجية الأمريكية في الحرب على “داعش”:
بعد عرض أهم النقاط التي يمكن استخلاصها من الاستراتيجية الأمريكية، يبدو أن هذه الاستراتيجية “متغيرة”، و”ضبابية”، و”تفتقر للآليات” أو “الجداول الزمنية”. وأهم الرؤي النقدية لهذه الاستراتيجية التي أفرزت تحالفا أقرب إلى الهشاشة منه إلى الفاعل الحقيقي كالتالي:
- الاستراتيجية الغامضة المتغيرة: جاء مقتل الصحفيين الأمريكيين جيمس فولي، وروبرت ساتلوف مخيفا ومربكا للرئيس الأمريكي، حيث قال حينها “إن لاعبي الاسكواش الصغار في سوريا قد بلغوا مبلغ الرجال، وإنهم صاروا يمثلون خطرا على الولايات المتحدة الأمريكية، فقتل الصحفيين هو بمنزلة إعلان حرب على أمريكا”. وقد أظهرت استطلاعات الرأي الأمريكية اتجاها قويا لمحاربة تنظيم “داعش” في كل من العراق وسوريا. غير أن هذه الحرب لم يخطط لها بشكل جيد، بل تم وضع استراتيجية سريعة وعاجلة افتقدت آليات، أو وسائل واضحة، أو خططا محددة، أو جداول زمنية، وهو ما بدا، من الارتباك والتغير الحاصل، والزحزحة في المواقف الأمريكية من رفض نظام بشار إلى القبول به ضمن مرحلة انتقالية. “ويتركز النقاش الحالي المتعلق بإخفاقات استراتيجية الإدارة في محاربة “داعش” حول ما إذا كانت الاستراتيجية تعمل من حيث اعتمادها على ضربات جوية، من دون وجود قوات أمريكية فعالة ومعتبرة على الأرض، وحول إذا ما كان ينبغي تسليح العشائر السنية مباشرة، من دون المرور عبر الحكومة المركزية في بغداد التي أثبتت عدم موثوقيتها، فضلا عن دور ميليشيات الحشد الشعبي، وراعيها الإيراني. وقد ثارت في وجه الإدارة عاصفة من الانتقادات التي عبر عنها الديمقراطيون والجمهوريون على السواء، تطالبها بمراجعة استراتيجيتها في محاربة تنظيم “داعش” كليا”. وفي 29 أغسطس 2014، أقر الرئيس الأمريكي بأن بلاده “لا تملك استراتيجية للتصدي لتنظيم “داعش” الذي يسيطر على مساحات كبيرة من الأراضي في العراق وسوريا”. ومن ثم، يتضح أن هناك تذبذبات في الموقف الأمريكي تراوحت بين التفكير في استراتيجية بعيدة المدي، سيعلن أو سيحضر لها الرئيس الأمريكي أوباما، ثم الاعتراف بعدم امتلاك استراتيجية في التعامل، انتهاء بمحاولة الحفاظ على التحالف الدولي الإقليمي، والعمل من خلاله.
- تحالف مفكك وغير منظم: إن التحالف الدولي الإقليمي، الذي دعت إليه الولايات المتحدة، يبدو مرتبكا ورخوا، حيث إن كل دولة مشاركة في هذا التحالف لها حساباتها المتباينة مع الدولة الأخرى، وكل دولة تحتفظ بتقديرات تلائم مصالحها القومية، والتي لا تتشابه مع الرؤية الأمريكية في الحرب على “داعش”. وأبرز مثال على ذلك تركيا التي كان على رأس شروطها إسقاط نظام بشار الأسد، وإيجاد منطقة عازلة للاجئين، وعدم تسليح الأكراد، ورفضها التدخل البري لإنقاذ مدينة كوباني. كما أن السعودية وقطر تصران على عدم وجود نظام بشار في أي خرائط مستقبلية لسوريا، بالإضافة إلى القلق السعودي من تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة وعلاقته ببغداد. وعلى الصعيد الأوروبي، أوضحت ألمانيا أنه لم تتم استشارتها بهذا الخصوص. وقال وزير الخارجية الألماني فرانك ولتر شتاينماير: دعوني أقل بكل وضوح إنه لم يطلب استشارتنا في الإسهام بالغارات الجوية ضد مواقع “داعش”، ولن نقوم بذلك أيضا. بينما تسعي فرنسا لأن تلعب دور منفردا عن الولايات المتحدة، حتي تستطيع ممارسة نفوذ واسع شبيه لقيادتها الحرب في مالي، وهو ما انعكس بقوة في عودتها للمسرح العراقي، بالرغم من أن واشنطن لا تزال اللاعب الرئيسي في قضية مواجهة “داعش”.
- استراتيجية محدودة وقاصرة: عند النظر في هذه الاستراتيجية، نجد أنها تركز على الضربات الجوية الانتقائية السريعة التي لا تؤثر كثيرا في بنية تنظيم “داعش”. فالرئيس الأمريكي لا يرغب في تكرار المشهد العراقي أو الأفغاني مرة أخرى بتوريط الجنود الأمريكان في الحرب ضد “داعش”.
كما أن بطء التحرك الأمريكي في دعم المجموعات المعتدلة أدي إلى كوارث كبري في منطقة الشام والعراق، وهو ما دعا الكاتب الأمريكي ميشيل فيكرز ”Michael Vickers” إلى القول إن “الوقت ليس في مصلحتنا. فالدولة الإسلامية ليست مجرد جيش متمرد إقليمي، بل هي جماعة إرهابية لها نفوذ دولي، وقائد للجهاد العالمي. نحن بحاجة إلى استراتيجية تضع سوريا أولوية بدلا من الاستراتيجية التي كنا نتبعها، والتي تضع العراق أولوية. لقد كان ثلثا ضربات التحالف الجوية حتي الآن في العراق، وكذلك جل جهودنا من أجل بناء القدرات .. إن التهديد في العراق محلي، بينما التهديد في سوريا دولي.
تعريف الكاتب: باحث دكتوراه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)