الاستقطاب الإقليمي بين تركيا وإيران (ميشال نوفل)
ميشال نوفل
السباق على النفوذ في العالم العربي هو في قلب الدينامية الاستراتيجية بين تركيا وايران، وقد كشفت الثورات التي غيرت العالم العربي الاختلافات في مقاربة القطبين للأوضاع المستجدة.
ينظر البعض إلى السمات الأيديولوجية للسياسة الخارجية التركية ليس كمتغيرات مستقلة بل كعوامل معززة للرغبة الأساسية لتركيا للاستمرار جزءاً لا يتجزأ من الإستراتيجية الأمنية / العسكرية الغربية في أوراسيا. ويرى البعض الآخر أن التحولات في السياسة الخارجية التركية العائدة إلى مطلع التسعينات من القرن الماضي والمتعلقة بالقاعدة الرئيسية للسياسة الخارجية التركية للمرحلة ما بعد العثمانية – التوجه نحو الغرب – قد وجدت موازنها في الاهتمام المتزايد بالجوار الإقليمي المباشر.
أياً تكن الاعتبارات، لا يمكن أحداً أن ينكر أن وصول حزب العدالة والتنمية (AKP) إلى السلطة عجّل في إعادة تموضع تركيا حول محيطها. وكان التعبير المبكر والأكثر إثارة لخيار التموضع الجيوسياسي رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأميركية باجتياح العراق انطلاقاً من الأناضول مطلع سنة 2003. وعلى الرغم من أن تركيا وإيران اختلفت مقاربتهما للغزو والاحتلال الأميركي للعراق، فإن رفض تركيا الاضطلاع بدور المسهِّل للمشاريع الأميركية، قوبل بارتياح في طهران؛ فالعراق هو أحد الأقاليم التي تلتقي فيها وتتقاطع المصالح التركية والإيرانية حول عدد من النقاط الحيوية ومنها إعادة بناء الدولة العراقية ولو في إطار فيديرالي، والحفاظ على السلامة الإقليمية للعراق واحتواء الطموحات القومية الكردية.
غير أن الملف النووي الإيراني يَظْهر منذ سنوات عدة باعتباره المؤشر الأهم لتعزيز التفاهم الاستراتيجي الإيراني – التركي. فقد أعربت تركيا مرات عدة عن معارضتها المقاربة التأديبية للقوى الغربية إزاء البرنامج النووي الإيراني، واتخذت أنقرة بوضوح موقفاً معارضاً لمعالجة الموضوع في مجلس الأمن الذي فرض جولات عدة من العقوبات ضد إيران منذ كانون الثاني 2006.
إن المعارضة التركية للجهود التي تقودها الولايات المتحدة لعزل إيران ومعاقبتها، بلغت أوجها في أيار 2010 عندما وقَّعت تركيا بالتفاهم مع البرازيل اتفاقاً مع إيران ينص على مبادلة 1200 كيلوغرام من الاورانيوم المتدني التخصيب بوقود لمفاعل مخصص للأبحاث في جامعة طهران.
وتبدو الحسابات التي تحض تركيا على مساندة إيران في هذا المجال والتوسط لتسوية هذا النزاع بالوسائل الديبلوماسية، أو العمل للتهدئة على الأقل وخفض التوتر بين إيران والولايات المتحدة، نابعة من سياسة إعادة التمحور حول المحيط الجيوسياسي والتزام قضايا العالم الإسلامي، ما يمثل ابتعاداً واضحاً عن المفاهيم الغربية في مجال الأمن الإقليمي. أما الخطاب المتشدد إزاء إسرائيل فإنه يوحي بأن صانعي القرار في السياسة الخارجية في زمن "العدالة والتنمية" تحركهم في آن واحد حسابات باردة تتعلق بالمصالح القومية ومبادىء العدالة وتأييد حقوق الإنسان والتضامن الإسلامي. ولذلك فإن معارضة تركيا الحصار الإسرائيلي المضروب على قطاع غزة والاعتراف بحركة "حماس" ونسج علاقات مميزة معها والانتصار لقضايا الشعب الفلسطيني، تندرج في عملية إعادة توجيه للسياسة تقترب من موقف إيران المعادي بشدة لدولة إسرائيل؛ والهجوم الإسرائيلي على أسطول السلام التركي في 31 أيار، كان نقطة التحول في علاقات ملتبسة أخذت تتدهور بين إسرائيل وتركيا على خلفية الحرب العدوانية على قطاع غزة سنة 2008 وقبلها العدوان على لبنان صيف 2006. وجاء قرار طرد السفير الإسرائيلي في أنقرة وتجميد العلاقات التركية – الإسرائيلية مطلع أيلول 2011، ثم إعلان أنقرة تعزيز وجودها البري في الحوض الشرقي للمتوسط، لتؤكد دخول تركيا سباق الزعامة الإسلامية والإقليمية من البوابة الفلسطينية. إلا إنه يُستبعد أن تتبع تركيا النهج الإيراني في معارضة إسرائيل، ذلك بأن تركيا تلتزم مبدأ التسوية السلمية وتتهم إسرائيل بتقويض عملية السلام التي تؤيد تركيا إدارتها على نحو متوازن وعادل، في حين تعلن إيران أن إسرائيل دولة لا تستحق الوجود ولا ترى حلاً للصراع العربي – الإسرائيلي والفلسطيني – الإسرائيلي إلا بالكفاح المسلح.
في التحليل النهائي، يجري الخطاب التركي في شأن المسألة الفلسطينية ومواجهة الاحتلال والهيمنة الإسرائيليين تحت سقف القانون الدولي والحقوق الشرعية المعترف بها للشعب الفلسطيني وفي مقدمها حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة إلى جانب إسرائيل.
هذا لا يمنع أن تلتقي التصورات الإستراتيجية الإيرانية والتركية حول موضوع آخر يتعلق برؤيتهما للتحولات في العلاقات الدولية وتحديداً في الحقل الجيوسياسي وصعود القوى الناشئة (دول البريكس مثلاً) والتراجع التدريجي لمكانة الغرب على النطاق العالمي؛ وتسعى إيران إلى دور أممي استناداً إلى مكانة فريدة حضارية وجيوسياسية وقراءة أيديولوجية للإسلام والوحدة الإسلامية، كذلك تفعل تركيا بشكل أو بآخر عبر إعادة تقويم التجربة العثمانية ومحاولة استعادة المكانة الجيوسياسية لبلاد الأناضول باعتبارها قلب "المنطقة الوسيطة" التي تأخذ من الشرق والغرب في آن واحد.
ويُلاحَظ أن الإيرانيين مثل الأتراك يحرصون دائماً على التذكير بأنهم تجنبوا الحرب منذ أكثر من 300 سنة، وكأنهم بذلك يبرزون الطابع الودّي لعلاقاتهم التي تتسم بالعمق والنضج والاستقرار، وهي سمات تجعل أي تدهور سياسي شديد للروابط الثنائية بين تركيا وإيران خارج التصور، وإن كان من الصعب أن نتصور إمكان أن تتجاوز تركيا وإيران التنافس الاستراتيجي لإتاحة قيام تعاون وثيق بينهما بالنظر إلى اختلافات سياسية وأيديولوجية أساسية، منها أن الرؤيتين الإيرانية والتركية لـ "الإسلام السياسي" تتسمان بمفارقات عميقة وتولدان نتائج سياسية مختلفة جذرياً؛ فالإيرانيون طوّروا مع ثورة 1979 نموذج "إسلام سياسي" يوظف الجزء الأكبر من طاقته في المجال الجيوسياسي حيث الهدف المعلن هو التصدي لدور الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى في الشرق الأوسط عموماً، وفي الخليج بشكل خاص. أما بالنسبة إلى تركيا، فإن النموذج التوليفي بين الإسلام والدولة العلمانية الذي يطوره حزب العدالة والتنمية، يركز على تعميق عملية التحول الديموقراطي في الداخل والتعددية الاجتماعية / الثقافية وإن كان يبدو متمسكاً بالقيم المحافظة ومعارضاً لبعض جوانب الثقافة الغربية.
الخلاصة أن تركيا وإيران تطمحان إلى زعامة العالم العربي/ الإسلامي، ولهما نقاط قوة وموارد كبيرة تخدم هذا الطموح: إيران بإمكانها الاستناد إلى أيديولوجيا إسلامية تمنحها استقلالاً سياسياً وقدرة على تصور وتطبيق سياسات غير مؤاتية للقوى الغربية الرئيسية، وتركيا من جهتها يمكنها أن تفاخر بنجاحها الاقتصادي والصناعي ونموذج "القوة الناعمة" الذي يفيد من التحول الديموقراطي والموقع الجيوستراتيجي الاستثنائي. السباق على النفوذ في العالم العربي وآسيا الوسطى هو في قلب الدينامية الإستراتيجية بين تركيا وإيران، وقد كشفت الثورات السياسية والتحولات التي غيرت ولا تزال صورة العالم العربي بوضوح الاختلافات في مقاربة القطبين للأوضاع الإقليمية المستجدة. وتظهر الانقسامات الأكثر شدة بين القطبين الإيراني والتركي في شأن الأزمة السورية حيث تدافع إيران عن النظام البعثي وترى في حركة الاحتجاج والثورة مؤامرة غربية، في حين تنحاز تركيا في نهاية المطاف إلى شرعية المطالب الشعبية بإنهاء نظام الاستبداد والفساد على غرار التجربتين التونسية والمصرية.
إن تركيا بصورة إجمالية تؤيد حركة الإصلاح الديموقراطي في المنطقة، وتحاول التأقلم مع المعادلة العربية الجديدة، أما إيران فإن موقفها انتقائي أكثر إذ تؤيد الديموقراطية في البحرين وتونس ومصر وتعارضها في سوريا لخشيتها من فقدان هذا الحليف الحيوي. وأياً يكن تطور هذه الديناميات الإستراتيجية والسياسية، فإن مشكلة فراغ القوة العربية الإستراتيجية تقيم بيئة جاذبة لتنافس القطبين الإيراني والتركي، وما دام المحور الاستراتيجي العربي غائباً فإن الاستقطاب الإيراني / التركي سوف يستمر وستكون سمته الأساسية الصراع على سوريا. ومن غير المجدي تصور تكوين قيادة عربية بالدول الخليجية صاحبة الإمكانات المالية لأن هذه الدول يمكن أن تكون عناصر داعمة مالياً لـ "تفاهم استراتيجي عربي" قوامه دول قادرة على الاضطلاع بدور قيادي وتتميز بكثافة جيوستراتيجية مثل مصر المنشغلة الآن بوضعها الداخلي، وسوريا المشلولة بأزمتها الثورية، والعراق وقد عطّل دوره إلى أجل غير مسمى، وبعد ذلك تأتي أدوار السعودية والجزائر وغيرها. ولأن الدول الخليجية لا يمكنها تولي قيادة "التفاهم الاستراتيجي العربي" بل تمويل هذه العملية، فإن الحماسة السعودية للتغيير في سوريا قد تكون مطلوبة في الجهود الآيلة إلى احتواء التحدي الإيراني، إنما التأثير السعودي له حدود تتجلى في التحفظات الجزائرية ومخاوف "الدولة العميقة" في مصر إزاء حصول فراغ في سوريا تستفيد منه تركيا أو إيران أو تركيا على حساب إيران.
يمكن أن نتصور أن عودة مصر من شأنها أن تُعيد الأمور إلى نصابها إقليمياً وتنتج خطاباً قومياً قادراً على رفع الصوت في وجه إسرائيل واحتواء التموضع الإيراني في منظومة العلاقات العربية. وقد يكون الاتجاه المصري في الموضوع الخارجي، أن تجاري القاهرة في مرحلة أولى ما أقدمت عليه أنقرة، أي عملية إعادة تموضع تدريجية تسمح لمصر أن تصبح شريكاً في إطار العلاقة الإستراتيجية بالولايات المتحدة وليس ورقة في جيب واشنطن. وإذا عادت مصر واستعادت دورها الإقليمي، فإن المنطقة تستعيد شيئاً فشيئاً التوازن والاستقرار، وحتى الدور التركي تصبح له وظيفة أخرى لأن هذا الدور لا ينفع كثيراً في إعادة التوازن الإقليمي ما لم يكن هناك دور عربي يوازنه. وهكذا تعود المحاور الإقليمية إلى أحجامها الطبيعية، ولا يعود العالم العربي ملعباً لها فحسب. تعود مصر لتستعيد دور القاطرة العربية فتحدث مع تركيا توازناً أفضل مع إيران، كما تحدث توازناً عربياً – تركياً.
تحت سقف الشراكة الاستراتيجية مع أميركا، يمكن المراجعة المصرية أن تقود إلى ظهور شريك لديه من القدرة الداخلية ما يسمح بالممانعة في مواقف معينة كما هي الحال التركية. تركيا في خضم حرب العراق قالت لا للتعاون في غزو بلاد الرافدين علماً بأنها عضو في حلف شمال الأطلسي وعلاقتها بأميركا أكثر مأسسة من علاقة مصر بأميركا. نعم، هناك مجال للتمايز، وعلى مصر والعرب أن يخرجوا من دوامة "أن تكون ملحقاً أو تكون مصادماً".
عندما تتقدم مصر في علاج مشكلاتها الداخلية فإنها قد تصبح قادرة على إعادة تموضع على المسرح العربي والشرق الاوسطي سيكون لها بالتأكيد ارتدادات قد لا تريح لا الإسرائيليين ولا الأميركيين.