الاسلاموي والمدني في سباق التحولات السريع (خالد عزب)

خالد عزب

 

شهدت مصر منذ ثورة 25 يناير أحداثًا متلاحقة تجعل مهمة المؤرخين في ملاحقتها وتحليلها أمرًا صعبًا، ولكنها في حقيقة الأمر تشكل مشهدًا يعكس بصدق طبيعة التحولات والمعطيات على الساحة السياسية المصرية.
أبرز هذه التحولات بروز فكرة الصراع السياسي بين جناحين أساسيين في مصر، هما الجناح الإسلامي والجناح المدني، وكلاهما يحمل في طياته تيارات متباينة من التشدد، إلى التفاهم، إلى الجنوح نحو المهادنة. ففي الجناح الإسلامي تتباين التيارات من الإخوان المسلمين إلى السلفية الجهادية. فعلى جانب يبدو الإخوان وقد استغرقتهم مخاوف الموروث التاريخي من الحقبة الناصرية، فبات الإخوان، منذ صعود الرئيس محمد مرسي لمدة حكم غلب عليها طابع الإقصاء والاستحواذ، مع إقامة تحالفات مع التيارات الإسلامية الأقرب إليهم منهجيًّا وفكريًّا، فكان تحالف حزب «الحرية والعدالة» الجناح السياسي مع حزب «الوسط» الذي انشق عن جماعة الإخوان المسلمين منذ أواخر تسعينات القرن العشرين ليكون أكثر الأحزاب تفاعلاً ومساندة لسياسات الإخوان. وبذلت قيادات «الوسط» مجهودات كبيرة في مساندة الإخوان في كل المواقف، وكان أبرز قيادات «الوسط» التي تفاعلت مع الساحة السياسية لمساندة الإخوان الدكتور محمد عبد اللطيف والدكتور محمد محسوب والمهندس أبو العلا ماضي والمحامي عصام سلطان، الذين شكلوا أهم حائط صد أمام الهجمات الشرسة للتيار المدني على سياسات الإخوان.
أما السلفيون، فتتباين رؤاهم وتياراتهم، ويظل الصراع بين الدعوي والسياسي من ناحية، وصراع الزعامات والسيطرة، هو الفيصل في مستقبل هذا التيار الذي يبدو أن أدواته السياسية ولغته باتت أكثر رشاداً من خطاب الإخوان المسلمين، بل بات ياسر برهامي أبرز قيادات التيار السلفي أقل ميلاً للصدام مع التيار المدني على الأرض، فلم يشارك السلفيون في موقعة الاتحادية، بل آثروا السلامة تحت شعار حفظ النفس ودرء الفتنة. لكن يبقى التباين بين التشدد والبراغماتية أيضًا هو الحكم في مدى تصاعد الخلافات والرغبة في السيطرة داخل التيارات السلفية على اختلافها، فإذا استطاعت أن تشكل غالبيتها تيارًا سياسيًّا رئيساً، فسيكون لها دور حاسم في تقرير وجهة المشهد السياسي في مصر، وإن تصاعدت الخلافات والصراعات بين الزعماء فقد يؤدي هذا بالسلفيين إلى تحولهم أقلية لمصلحة تيارات أخرى.

اقلية نافذة
وتشكل «الجماعة الإسلامية» أقلية في التيار الإسلامي، لكنها أقلية لها مناطق نفوذها بين أسيوط ومنطقة ناهيا في الجيزة وكذلك منطقة القناطر في القليبوبية. هذه الجماعة الإسلامية لها حزبها السياسي، ولكن يبقى الصراع الفكري هو الحاكم في مستقبل هذا التيار، وإن كان الدكتور ناجح إبراهيم والدكتور كرم زهدي يقودان المراجعات الفكرية بمنهجية حوارية قوية تشي بنجاح قد يؤدي إلى تمدد نسبي للجماعة مستقبلاً على حساب السلفيين والإخوان المسلمين.
على جانب آخر ابتلى الإخوان المسلمون بداء أهل الثقة على حساب أهل الكفاءة طارحين مبدأ الانتماء أولاً قبل القدرة على وضع السياسات الاستراتيجية واتخاذ القرار والتنفيذ.
وداخليًّا ما زالت الجماعة تعاني هيمنة قيادات السبعينات عليها، فيما يتم استبعاد الأجيال الأحدث، وهذا إن استمر في السنوات القادمة مع تزايد الضغوط على الجماعة، سيؤدي إلى انشقاقات جيلية قد تنتج أحزاباً على نمط «العدالة والتنمية» التركي.
أما الجانب المدني، فالتباين بين تياراته وقياداته كبير، لكن الإعلان الدستوري لمحمد مرسي وحّدها مع تخليه عن وعوده لجانب من قيادات هذا التيار إبان تسلمه مهماته الرئاسية. هذا التيار يتراوح فكريًّا بين اليسار وأبرز قواه حزب «التحالف الشعبي الاشتراكي»، والوسط وأبرز قواه «الحزب الديموقراطي المصري الاجتماعي» واليمين بجناحيه «الوفد» وحزب «المصريين الأحرار»، وغيرها، على اتساع رقعة الأحزاب المدنية الكثيرة التي إن لم تشهد اندماجًا، ستواجه تهميشًا لقوتها على المدى البعيد، وإن كانت الشواهد توحي بأن حزب «الدستور» سيكون هو الحصان الأسود للتيار المدني في الانتخابات البرلمانية القادمة، وذلك للرهان على نجاح أمينه العام الدكتور عماد أبو غازي في الدفع بالحزب بقوة إلى تكوين لجان في معظم مدن مصر، فضلاً على اعتماد الحزب على القوى الشبابية التي برزت مع ثورة يناير والتي انضمت للحزب، فصار للحزب وجود قوي في عدد من مدن مصر الكبرى كالقاهرة والجيزة والإسكندرية وطنطا والمنصورة وبنها وغيرها. وأبرزت الأحداث الأخيرة حدة الصراع بين التيارات الإسلامية والتيارات المدنية، وكشف هذا الصراع عن أحادية تفكير كل تيار ونفى إمكان قبول التعددية والحوار قاعدة سياسية أساسية في الحياة الديموقراطية، ومع ذلك يبدو هذا الصراع صحيًّا في الحياة السياسية المصرية؛ إذ أنه سينهك هذه القوى التي ستضطر إلى التوصل إلى قواعد سليمة للعبة السياسية، وإلى تفهمات حول مستقبل مصر.

تعزيز المشاركة
وكان مما كشفه هذا الصراع تصاعد اهتمام المصريين بالمجال العام بعد عزوفهم سنوات عن المشاركة في الحياة السياسية، وقد مثلت فكرة العدالة والحرص على استقلال المؤسسة القضائية محور الصراع الدائر حاليًّا؛ إذ أن فكرة تأثير السلطة التنفيذية وهيمنتها على مؤسسة القضاء باتت محل تساؤل، فضلاً عن التساؤلات المثارة حول نزاهة القضاء وكفاءته ومدى القدرة على ضمان حياديته بعيدًا عن سطوة السلطة التنفيذية، ومن ثم، فإن هذا التجاذب والتصارع حول القضاء الآن هو الذي سيحدد مفهوم العدالة وتحقيقها في المجتمع المصري.
لكن من المؤكد أن القوات المسلحة خرجت برغبتها من الصراع السياسي على السلطة، إذ تحولت بقناعتها إلى ممارسة دورها الوظيفي في الدفاع عن الحدود والأراضي المصرية، ومع ذلك ستبقى حاضرة في الظل من حين إلى آخر لممارسة أدوار مؤثرة في السياسة العامة، ووضع الرؤى الاستراتيجية للدولة المصرية، فضلاً عن حضورها القوي في الاقتصاد الوطني.
وفي الآونة الأخيرة، جنى الإعلام المصري ثمرات ما زرعه بعد الثورة، حين اندفع بسيول من الاتهامات من دون أدلة أو تمحيص، وسعى لنشر ما لم يدقق فيه، فاهتزت الثقة العامة به. واستغل الإسلاميون هذا وصعدوا من هجماتهم ضد «الإعلام» على رغم أن هذا الإعلام، بخاصة فضائياته وصحفه الخاصة، لعب دورًا مشهودًا في مكافحة مشروع توريث جمال مبارك. لذا، فإن وضع مدونة لأخلاقيات الممارسة الإعلامية من قبل الإعلاميين أنفسهم بعيدًا عن السلطة التنفيذية بات أمرًا ضروريًّا، وذلك لئلا يعطوا فرصة للآخرين في الطعن في صدقيتهم أو محاصرتهم وتهديدهم، بخاصة إذا كانوا من المعارضين للسلطة الحالية في مصر.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى