الاقتصاد الروسي مع بداية 2016
بدأ العام 2016 في روسيا بالإعلان عن رفع أسعار الكهرباء والغاز والتدفئة، وغير ذلك من سلع وخدمات حياتية أساسية للسكان. وتشير وسائل إعلام روسية إلى أن قطاعاً من السكان توقف عن سداد فواتير هذه الخدمات، لتصل الديون المُستحقة عليهم عن الغاز فقط إلى نحو 60 مليار روبل. واللافت أن وسائل الإعلام الروسية تؤكد أيضا توقف بعض المصانع الروسية عن تسديد مثل تلك الفواتير. وعندما سألنا عن سبب هذا التوقف، كان الرد أن بعض السكان وبعض المصانع لا يُوجد لديه ما يدفعه مقابل استهلاك هذه السلع والخدمات، بينما يرى آخرون أن هذا التوقف عن السداد يعكس، بدرجة ما، نوعاً من الاحتجاج الصامت على ارتفاع الأسعار المتواصل في البلاد. فقد انتهى العام 2015 بمعدل تضخّم بلغ حوالي 12,7 في المئة، بحسب البيانات الرسمية. وكانت مؤشرات الاقتصاد الروسي في مجملها سلبية، وذلك برغم ترديد المسؤولين الروس أن أزمة هذا الاقتصاد وصــــلت إلى نهايتها وذروتها، بمــــعنى أن الانتعاش قادم لا محالة. لكن الجميع يعلم، وأحياناً يُصرّح، بأن الأزمة ستتواصل على أقل تقدير حتى العام 2018، وهو عام الانتخابات الرئاسية.
لقد أعلن البنك المركزي الروسي نهاية كانون الأول المنصرم أن انكماش الناتج المحلي الإجمالي في العام 2015 سيصل إلى 4 في المئة، وتوقع استمرار الركود لثلاث سنوات مقبلة في ظل تواصل انخفاض أسعار النفط العالمية. كما أن عجز الموازنة العامة للدولة الروسية بلغ أكثر من 5 في المئة في ظل سعر أربعين دولاراً للبرميل. واليوم، كما نرى، وصل هذا السعر إلى أقل من ذلك. وتؤكد التوقعات الرسمية وغير الرسمية في روسيا أن الموارد المالية لصندوق الاحتياط للدولة ستــــنفد خلال العام 2016. وتُشير صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروســــية إلى أن الناتج المحـــلي الإجمالي الروسي يُقيّم بالدولار، وليس بالروبل الروسي، تراجع بنسبة لا تقل عن 40 في المئة في 2015. وهذا بالطبع يعــــود إلى التــــراجع الكبير للعملة الوطنية الروسية مقــــابل الدولار الأميركي واليورو على خلفية الانخفاض الكبــــير في أسعار النفط، الذي تمثل عائدات تصديره مع الغاز عصب ميزانية الدولة. في الوقـــــت نفسه، تراجعت الدخول الحقيقية للسكان في الربــــع الــــثالث من العــــــام المنصرم بــ 10 في المئة. وتذكــــر صحف روســـية أن عــــدد حالات الانتحار بلغت في 2015 نحو 22 ألف حالة، يعود سبـب معظمها إلى تراكم الديون على المنتحرين وفقدانهم وظائفهم.
تحت تأثير السياسة خلال العامين الأخيرين عبر استعادة القرم والدفاع عن مصالح روسيا في الخارج، خاصة في الشرق الأوسط، يركّز المسؤولون الروس، ومعهم الإعلام الداعم، على أن سبب ما يجري مع الاقتصاد الروسي يكمن في «مؤامرة» لحصار روسيا ومنعها من تحقيق مصالحها الوطنية، بفرض العقوبات عليها وتعمُد تخفيض أسعار النفط في الأسواق العالمية. لا شك في أن العقوبات والتراجع الكبير في أسعار النفط ساهما في التدهور الاقتصادي الجاري في روسيا. لكن لا ينبغي تجاهل أن نمو الاقتصاد الروسي بدأ في التراجع قبل الأزمة الأوكرانية والانخراط العسكري الروسي في سوريا، وفي ظل أسعار مرتفعة لبرميل النفط. ففي العام 2013، كان نمو الناتج المحلي الإجمالي في روسيا 1,3 في المئـــــة في ظل سعر 108 دولارات لبرميل النفط، وفي 2014 بلغ هذا النمو 0,6 في المئة فقط عندما كان سعر برميل النفط حوالي 98 دولاراً. علماً بأن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في 2012 كان نحو 3,4 في المئة، بينما كان المعدل المتوســـــط لنمو هذا المؤشر حوالي 7 في المئة سنويا خلال الفترة من 2000 وحتى 2007، وكان ذلك بفضل الأســـــعار المرتفعة عالمياً للنفط آنذاك. في عامي 2013 و2014، وبرغم الأسعار المرتفعة لبرميل النفط، عانى النمو الاقتصادي في روسيا من التراجع.
إن الاقتصاد الروسي لا يمر بأزمة دورية فحسب، إنما يعاني من أزمة بنيوية مستحكمة، حتى في ظل معدلات نموه المرتفعة السابقة. وهذا يتطلب إعادة هيكلية هذا الاقتصاد لمصلحة الاهتمام بقطاعات الاقتصاد الحقيقي الأخرى وتقليل الاعتماد على قطاع النفط والغاز كمصدر رئيس لعائدات الميزانية وكمصدر غير قليل لتوليد الدخل الوطني. ويرتبط بهذه الهيكلة أيضاً استخدام عوائد صادرات النفط والغاز في الاستثمار بالقطاعات الصناعية الأخرى وتحفيز مجال البحوث والتطوير والابتكار التكنولوجي. فقد أوضحت العقوبات الغربية على تصدير التكـــــنولوجيات المتقدمة لروسيا أن نحو 65 في المئة من المعدات والآلات اللازمة للصناعة ولقطاع النفط نفسه يتم استيرادها من الدول الغربية. وعندما أغلقت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أبواب الإقراض أمام الشــــركات الروسية، بسبب أوكرانيا وضمّ القرم، بات الاقتـــصاد الروسي في حالة تُشبه «الجوع الاستثماري».
في مطلع الألفية الجديدة، بدأ الترويج من قبل بعض الخبراء الروس لمفهوم دولة «الطاقة العظمى»، الذي يعتمد على تصدير ما تتمتّع به روسيا من ثروات هائلة من النفط والغاز الطبيعي لتحقيق مكاسب اقتصادية وســـياسية. وبعبارة أخرى، استخدام هذه الثروة كورقة للضغط الاقتصادي والسياسي بُغية تحقيق أهداف جيوسياسية وتعزيز المصالح الوطنية الروسية في الخارج. وتعزّز هذا المفهوم عبر نمو الاقتصاد الروسي بمعدلات سنوية متوسطة مرتفعة بين أعوام 2000 و2007، كما أشرنا أعلاه. ولكن دولة «الطاقة العظمى» تبدو وكأنها تترنّح حالياً تحت تأثير تراجع أسعار النفط والعقوبات الغربية وتراجع سعر صرف الروبل وهروب رؤوس الأموال وتفاقم الأزمة البنيوية للاقتصاد الروسي. لقد أدّى هذا المفهوم في الممارسة إلى عرقلة عملية التصنيع والتطور التكنولوجي في روسيا، ولذلك يدعو البعض حالياً إلى «إعادة تصنيع» البلاد من جديد وتنويع الاقتصاد الروسي. فلا يُعقل أن يكون أكثر من 80 في المئة من صادرات دولة كبيرة مثل روسيا مكوّنة من النفط والغاز وغيرهما من المواد الخام والأولية.
صحيفة السفير اللبنانية