الاقتصاد السياسي للمفاوضات الإيرانية ـ الأميركية (مصطفى اللباد)


مصطفى اللباد

تبدأ بعد غد جولة جديــدة من المفاوضــات النــووية بين إيران والدول الست الكبرى، تتمحــور حــول «اتفاق الإطار» المصاغ من واشنطن وطهران، والذي سيرسم خريطة الطريق للمفاوضات خلال الأشهر الست القادمة. تتفاوض إيران مع أطراف ست هي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، إلا أنها تتفاوض في العمق مــع أميركا. لا يــخل هذا الاختزال بأهمية الدول الأخرى في المفاوضات، ولكنه يعكس حقيقة أن الأثمان المطلوبة من كل طرف لإنجاح عملية التفاوض تقع حصراً في واشنطن وطهران.
تدخل أميركا المفاوضات وعينها على التقدم التكنولوجي الذي أحرزته إيران طيلة السنوات الماضية، محاولة إرجاعه إلى الوراء، في حين يجلس المفاوض الإيراني على طاولة التفاوض وهدفه رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية، التي أثقلت كاهل الاقتصاد الإيراني. بمعنى آخر، يقوم جوهر عملية التفاوض الجارية على تنازلات متبادلة، أو مكاسب متقابلة للطرفين الإيراني والأميركي: التقدم التكنولوجي مقابل العقوبات الاقتصادية. وفق ذلك المقتضى، ستلتزم إيران باعتماد الوسائل المطلوبة كافة، لإثبات شفافية وسلمية برنامجها النووي وخطها الأحمر امتلاك دورة الوقود النووي الكاملة، وبالمقابل سترفع أميركا العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على إيران من جانب واحد بالتدريج على مراحل. باختصار تدور المقايضة على مبادلة التقدم التقني الإيراني بالعقوبات الاقتصادية: كلما تراجعت إيران خطوة إلى الوراء في برنامجها النووي، تراجعت أميركا بمثلها في عقوباتها الاقتصادية. على هذا النحو تصبح المفاوضات النووية مرتبطة أشد الارتباط بعلم الاقتصاد السياسي، إلى جانب القانون الدولي وقوانين الفيزياء النووية.

العقوبات الاقتصادية: وسيلة أميركا

دخلت إيران جولات التفاوض الأخيرة وقد أرهقتها العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن عليها من جانب واحد، سواء بقرار من البيت الأبيض أم من الكونغرس. حولت العقوبات الاقتصادية الاقتصاد الإيراني إلى اقتصاد يقوم على المقايضة، بعدما حظرت أميركا على الشركات من دول العالم المختلفة التعامل مع البنك المركزي الإيراني، وإلا ألحقت عقوبات بالمتعاملين معه. وساهمت العقوبات الأميركية في تردي العملة الوطنية الإيرانية «التومان»، ومعها معدلات التنمية الاقتصادية وتدهور واضح في مستويات المعيشة لملايين الإيرانيين. كان قلب المعادلة الاقتصادية سبباً رئيساً لانتخاب حسن روحاني في صيف العام الماضي، بوضعه ذلك الهدف في مقدم أولوياته الرئاسية. حتى الآن لم يؤد الضغط الاقتصادي الأميركي إلى استسلام إيراني في الملف النووي، لكنه يحث إيران بالفعل على التقدم في المفاوضات لمنع انهيارات اقتصادية كبرى متوقعة في حال استمرت العقوبات.
تنقسم العقوبات الاقتصادية إلى أنواع مختلفة من العقوبات، التي يمكن إجمالها – بشيء من التبسيط – في: عقوبات تجارية واستثمارية وعقوبات مالية، ولكل نوع منها تأثيره وشروطه التي تختلف عن غيرها.
ينطلق التوصيف الكلاسيكي لأنماط العقوبات الاقتصادية من أنها تعني تقليص المبادلات الاقتصادية، ولذلك تكون العقوبات ناجعة ومؤثرة كلما كان البلد المعني يمتلك اقتصاداً يعتمد في جانب كبير على المبادلات الاقتصادية في ضبط حركة قطاعاته الأساسية، وهي حالة إيران المعتمدة بشدة على تصدير النفط. ويعود ذلك، لأن النفط يشكل سلعة التصدير الأولى في إيران، ويمثل ما بين 80 في المئة إلى 90 في المئة من الصادرات الإيرانية، كما يمول تصدير النفط ما بين 40 في المئة إلى خمسين في المئة من إيرادات الدولة الإيرانية. ولأن إيران تريد توسيع عمليات استخراج النفط من حقولها المكتشفة بالفعل، أو القيام بعمليات استكشاف لحقول جديدة، فهي بحاجة إلى استثمارات ضخمة في قطاع النفط للوصول إلى تلك الأهداف. لذلك فإن الحظر النفطي غير المباشر (عبر حظر التعامل مع البنك المركزي الإيراني)، والمقترن بإيقاف الاستثمارات الخارجية في قطاع الطاقة (النفط والغاز)، يؤذي إيران واقتصادها بشدة.
وتمثل العقوبات المالية ضغطاً إضافياً على إيران، فبجانب تجميد الودائع الحكومية وودائع الشركات والأفراد الإيرانيين، تعد عملية عرقلة نفاذ الاستثمارات إلى إيران ركناً هاماً من أركان العقوبات المالية. ويضغط هذا النوع من العقوبات على احتياطات إيران من العملات الصعبة. ويتميز هذا النوع من العقوبات المالية بأنه لا يحتاج إلى غطاء دولي من مجلس الأمن، إذ هو عبارة عن إجراءات عدائية من أميركا تجاه إيران، ولكنها لا تمثل خرقاً واضحاً لنصوص القانون الدولي.

عشرون مليار دولار يدور التفاوض عليها

يأمل المفاوض الإيراني في الحصول على عشرين مليار دولار خلال فترة الشهور الستة التي ستستغرقها خريطة الطريق، أي بعد التوقيع على «اتفاق الإطار». وبخلاف التفاصيل التقنية الواجب الالتزام بها من طرف إيران مثل الموافقة على عملــيات تفتــيش مفــاجئة، والهبوط بنسبة تخصيب اليورانيوم من عشرين في المئة إلى ثلاثة ونصف في المئة، وتصفية المخزون من اليورانيوم المخصب إلى درجة عشرين في المئة وتحديد عدد أجهزة الطرد المركزي اللازمة لعمليــات تنقــية اليورانيوم، وتعلــيق العــمل في «مفاعــل أراك» وغــيرها من التفاصيل، يجلس المفاوض الإيراني وعينه على أهداف اقتصادية. تضمــنت مســودة «اتفاق الإطار» أن تفرج الولايات المتحدة الأميركية عن ثلاثة مليارات دولار من الأصول الإيرانية المجمدة لديها، كمشهيات افتتاحية. ولأن إيران تتعامل مع الدول التي تصدر النفط إليها عن طريق مقايضة النفط بالذهب بسبب العقوبات المفروضة على البنك المركزي الإيراني، يعد رفع الحظر على تجارة إيران من المعادن النفيسة ضرورياً لبيع الذهب المتراكم لديها بشكل يفوق الاحتياج الفعلي. وإذ وصلت الصادرات التركية من الذهب إلى إيران إلى معدل مليار ونصف مليار دولار شهرياً طيلة السنة الماضية 2012، فهذا يعني قدرة إيران على مراكمة تسعة مليارات دولار سائلة من تركيا مقابل صادراتها النفطية خلال شهور التفاوض الست القادمة. وطبقا لبيانات «بيزنس مونيتور انترناشيونال»، فقد صدرت إيران العام الماضي ما ثمنه 11,2 مليار دولار من المنتجات البتروكيماوية قبل فرض الحظر الأخير عليها. وفي حال تم رفع الحظر عن هذه المنتجات، وباستخدام هذه الأرقام كمؤشر أساسي، يمكن لإيران التصدير بمبلغ يتراوح بين خمــسة وســتة مليارات دولار إضافية خلال فترة الستة شهور القادمة التفاوضية. كما فرضت أميركا، منذ حزيران 2013 قبيل الانتخابات الرئاسية الإيرانية، عقوبات على قطاع السيارات الإيراني، بدعوى ارتباطه بالحرس الثوري الإيراني، الذي سيطر حتى انتخاب الرئيس الإيراني حسن روحاني على البرنامج النووي، وشكل شبكات تجارية في دول متعددة لمراوغة الحظر عبر أطراف ثالثة. قبــل فــرض حــزمة العقــوبات الأخــيرة، وفي فترة سبعة شــهور فقــط من العام 2012 قامــت إيران بتصدير ما ثمنه 1,4 مليار دولار من قطاع سياراتها، وبالتالي يمكن لإيران أن تتحصل على 1,3 مليار دولار من صادراتها من السيارات خلال فترة التفاوض القادمة، أي خلال الشهور الست القادمة. على ذلك، يصبح مجموع ما يمكن أن تتحصل عليه إيران، مبلغاً يقارب عشرين مليار دولار خلال الفترة التي يتطلبها تنفيذ خريطة الطريق، وهي ستة أشهر.

احتياطي إيران النقدي

تملك إيران احتياطات تقدر بحوالي ثمانين مليار دولار، منها عشرة مليارات مجمدة وعـشرين مليار أخرى سائلة يمكن التحكم بها من دون عوائق، أما الخمسون مليار دولار الباقية فيمكن التحكم بها بصعوبة نسبياً بسبب المقايضة، التي اضطرت ايران اليها بسبب العقوبات مع دول مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا. ومن شأن تخفيف الحظر على القطاعات المذكورة سابقــاً أن تحــصل إيران على عشرين مليار دولار من أموالها بعد رفع الحظر. ويعني ذلك أن يرتفع الاحتياطي النقدي الايراني بمعدل الربع، ليصبح مئة مليار دولار، وبدوره سيعني ذلك رفع نسبة الاحتياطي السائلة من عشرين إلى أربعين مليار دولار. ويزيد الرقم الأخير في حال رفعت العقوبات عن الصادرات الايرانية المقيدة بالمقايضة، وقيمتها خمسين مليار دولار على دفعات. وقتها سترتفع الاحتياطات السائلة من عشرين مليار دولار راهناً إلى سبعين مليار دولار، ولا يخفى بأن كل هذه المبالغ إيرانية ولا تتضمن معونات أميركية، وإنما تخفيفاً للعقوبات فقط.

ميزان الذهب

تمسك أميركا بورقة تخفيف العقوبات الاقتصادية على طاولة المفاوضات لتغري إيران بتقديم المزيد نووياً، ويحكم سلوكها التفاوضي خيط رفيع يفصل بين تقديم مزايا اقتصادية محدودة يمكن التراجع عنها (المشهيات)، ولكنها ضرورية لاستمرار عمــلية التــفاوض من ناحية. ومن ناحية أخرى، الحرص على عدم تقديم تنازلات جوهرية (الأطباق الرئيســية) مبكراً، لأن ذلك سيحرر إيران نسبياً من ضغط العقوبات، ويدفعها إلى التشدد في الجولات الاحقة. وبالمقابل تعرف إيران أن لكل خطوة تتراجع بها إلى الوراء نووياً، ثمنا مطلوبا أميركياً يتمثل في خطوة مقابلة إلى الوراء اقتصادياً. ومن شأن تجاوب إيران بشكل غير متكافئ، أن تملي أميركا شروطها على إيران في النهاية فتستطيع أن تنتزع بالمفاوضات ما عجزت عن اقتناصه بوسائل العقوبات الاقتصادية. يرغب الطرفان الأميركي والإيراني في التوصل إلى تسوية وفرص نجاحها عالية بالفعل، ولكن الطريق نحو تنفيذها سيكون صعباً وعسيراً. باختصار يمسك كل من الطرفين بميزان من ذهب يزن به خطواته والخطوات المقابلة في كل مرحلة، وإلا أفلت منه الزمام التفاوضي في النهاية. ويسري ذلك بالطبع على جولة بعد غد التفاوضية، التي ستدور حول تفاصيل نووية واقتصادية في آنٍ معاً.


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى