الاماكن المغلقه
“أحد أنواع القوى المنحطّة…القبر”
_________________________
كان يعلم فقط هذ المعلومة التي تجلب مالاً: تهمة شيوعي توصل إلى السجن، وعندئذٍ كثر المخبرون الذين لم يكونوا سوى أميين لا يعرفون معنى كلمة شيوعي، وفي هذه الظروف استُخدم هذا السلاح لتصفيات الخصوم من أجل أي شيء… وكان أحياناً يكتفي المخبر بأنه رأى “فلاناً” يرسم “منجل ومطرقة” على حائط المرحاض العمومي.
في طريقنا إلى الأهرامات في القاهرة كان الكاتب التركي عزيز نيسين يختم تعليقه هذا على انحطاط الاستبداد، عند وصولنا إلى هرم خوفو. اشترينا بطاقتين ، عزيز نيسين وأنا ، في حين رفض آخرون من الكتّاب المغامرة بدخول الهرم . ونصحني أحدهم قائلاً: “ستتعرف على ما يسمى فوبيا الأماكن المغلقة”.
دخلنا النفق الصاعد دون درج والضيق الذي يقتضي الانحناء. وفجأة توقف الصاعدون عن الصعود، وطال الوقوف، بوضعية “وجه في مؤخرة” لنعلم أن رجلاً طويلاً، بحقيبة ظهر، سد النفق ولم يعد يستطيع الحركة.
وفوراً بدأ ضيق التنفس، واحتقان الأنف، والارتباك الناتج عن نقص الأوكسجين مع رائحة عطنة عمرها آلاف السنين.
التفت إلي عزيز نيسين وخاطبني بإنكليزية بدت كأنها هيروغليفية من عصر خوفو ، الذي تورطنا في الصعود إلى قبره في أعلى الهرم.
قال ، وهو يتعرق، أظن نحن ذاهبون إلى الموت. قلت مقلداً طريقته الساخرة في الكتابة : ” سيد نيسين … إن الموت يأتي ، ايضا ، إلى كبيرالأساقفة “.
وفي الحقيقة كان الأمل في أن نعيش يشبه أمل غزال في فك نمرجائع . لا أنا ولا أي شخص من رفاق تلك المحنة السياحية كان لديه الأمل في النجاة. لقد بدأ الأنين وكانت تلك الأصوات تشبه نداءات الاستغاثة من أناس دفنوا أحياء ويطلبون النجدة من لا أحد في ليل المقبرة.
وبعد ساعة ، ونحن ثابتون في أماكننا في وضع الانحناء ، تزحزح الرتل وصعدنا.
عند قبر خوفو في اعلى الهرم… فتحة سماوية أطل منها القليل من الهواء. ابتسم عزيز نيسين وقال: ليس ضرورياً زيارة الآلهة الفرعونية، فلماذا تورطنا بزيارة أضرحتهم؟ وأسرعنا في الهبوط. وكان في انتظارنا الكتاب الذين عرفوا المحنة، وقال أحدهم غامزا :
” الاماكن المغلقة…هي مايجب ان يتفاداه الكاتب “.
كل ما في الأمر، المسؤول عن الدخول سمح بضعف عدد الزوار فحدثت الزحمة. ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أستطيع الجلوس في مكان سقفه منخفض. ولا اطيق الاقبيه، وأعتقد أن واحداً من معاني الحرية قد أضيف إلى فكرتي عنها هو :
“الجبل لا يسكن قبوا”
“الحرية…. أفق”.
بين حين وأخر أقرأ عزيز نيسين، وأتذكر تلك المحنة. أكثر من ذلك عندما بلغني نبأ وفاته…أحسست بضيق محدد: كيف سيعيش عزيز نيسين في هذا المكان الضيق… القبر؟
وكدت أختنق.
لقد مضى على تلك الحادثة ربع قرن. وها أنا أكتب باستعجال من يبحث عن النجاة من الممر القاتل إلى قبر خوفو. لقد بدأ صدري يضيق من روائح الذاكرة. أنهي استعجالي بآخر سطر من كتاب عزيز نيسين:
“ذكريات من المنفى”
“لم أكتب هذه الذكريات لكي أقول: انظروا كم عانيت.
إن آلامي غير جديرة بالذكر”.