الامتلاء بالحياة

 

ليس الامتلاء بالحياة أن تكتظ خزائنك بالمال ، أو أن يمتد نفوذك في السلطة ، فقد يسلب الفحُش في الثراء عقلك ، و يمسح الإطلاق في السلطة روحك فلا تمتلئ من الحياة إلا بما ينذر بإنحطاطها و فقدانها الوشيك .

الامتلاء  بالحياة هو نور الشمس يغسل بدنك ، و الهواء النقي يطهر رئتيك و اللقمة الظريفة النظيفة تشبعك و الجرعة الصافية ترويك ، فلا ترى عيناك إلا البهي ، و لا تسمع أذناك إلا الشجي المطرب ، و قد تتألم لفقدان عزيز غير أنك بما تملك من عافية في الجسد و الروح ما من خسارة لا تعوض .

و لكم أثار عجبي أنني عرفت أناسا لا يوحي منظرهم إلا بالبؤس حتى إذا خالطتهم و جدتهم أبعدما يكون عن التشاؤم و التعاسة حتى أن بعضهم أدهشوني حقا بفرحهم العجيب لا لشيء سوى أنهم ظفروا بإقتناء كتاب نادر أو التقوا مصادفة بصديق قديم ، و لا أنسى آخرين أنقذوني مرارا من الوحشة بحضورهم الحميم ومن الكأبة بمرحهم الفطري .

أذكر واحدا منهم على سبيل المثالا لا الحصر ، كان صديقا لا تمل صحبته كان يعشق التسكع في البراري ، فإذا لم يستطع الخروج من البلد فالتنزه في الحدائق العامة كان يغنيه كلما وجد وقتا لذلك . كان موظفا بسيطا ، ذا دخل قليل ، و أسرة من زوجة وولدين ، ما أزال أتذكره كلما مررت بحديقة ،أو خرجت إلى سيران أو شممت زهرة عطرة على أمها و أتذكر ما قال لي حين سألته ذات يوم عن سر عشقه الطبيعة فقال: أنا لا أتعب نفسي كثيرا في تفسير ذلك، إنني أستسلم لفطرتي ، وهي التي تقودني إلى النضارةِ  والطزاجة والألوان الحية والأصوات التي لا يعنيها سوى أن تعلن عن بهجتها بأنها على قيد الحياة .

و أذكر فيما أذكر مناسبة عصيبة أرهقتني ذات يوم فلجأت إلى السفر نحو شاطئ البحر ، و هناك قضيت ثلاثة أيام عامرة بالسباحة و التسكع مع رفاق طيبين في البراري الخضراء المحيطة بالمدينة .

كانت صحتي على ما يرام ، و لم يكن ينقصني سوى الصحبة الطيبة أحيانا ، غير أنني عوضت بما كنت أبتكره من أنشطة هنا و هناك .

كنت مثلا كما أذكر حين أقفز إلى الماء أبدو كمن يريد أن يكشف عن أسرار سحرية مخبوءة في الأعماق ، و عندما تصدمني الموجة أطفو فوقها أو أخترقها و أنا أصرخ فرحا كطفل عابث يلعب ، فإذا خرجت من الماء لم تكن ثمة قناعة فكرية أو عاطفية أعظم من شعوري بأنني ممتلئ بحلاوة الحياة حتى الحافة و أن كل المتاعب تتبدد في غمرة هذا الفيض الخارق.

ذلك هو الإمتلاء الحقيقي بالحياة ، أن تمتلئ بالأخرين بدلا من الإكتفاء بذواتنا  او أن نذوب في الطبيعة بدلا من  ان نتصلب في عزلتنا ،  و ها أنذا الأن في شيخوختي أعيش على تلك الذكريات و أبدو كمن يترقب حدثا من أحداث الشباب و كأن عملية الإمتلاء بالحياة ما تزال تتوقد بنشاط فكري وثاب لا يهدأ و لا يمتلئ…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى