الانتخابات البلدية التركية ومستقبل أردوغان (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد

تشكل الانتخابات البلدية في العادة حدثاً سياسياً من الدرجة الثانية، إذ أنها تعكس موازين قوى ما تنتظر ترجمتها الفعلية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية. لكن الانتخابات البلدية التركية التي جرت أمس تخرج عن هذا السياق، لكونها تمثل مؤشراً هاماً على شعبية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وحزبه. تمثل انتخابات أمس حدثاً سياسياً من الطراز الأول بسبب السياقات الإقليمية والزمنية الذي تجري فيها، فهي الاستحقاق الانتخابي الأول بعد الانكفاء الإقليمي التركي في أعقاب سقوط «الإخوان المسلمين» في مصر وفشل السياسة التركية حيال سوريا، وهي أيضاً «البروفة» الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية التركية المقرر إجراؤها في شهر آب المقبل، والمتوقع أن يخوضها أردوغان. كما أن الانتخابات البلدية 2014 تأتي بعد حدثين ضخمين: تظاهرات ميدان تقسيم المعارضة لأردوغان صيف العام الماضي واتهامات الفساد التي طاولت القريبين من أردوغان منذ نهاية العام الماضي. باختصار، يواجه رجب طيب أردوغان اختباراً صعباً سيؤثر على مستقبله السياسي، خصوصاً أن أردوغان أعلن انسحابه من الحياة السياسية إن لم يتصدر حزبه الانتخابات البلدية التي جرت أمس.

«الموزاييك» السياسي التركي

تتمثل القوة الضاربة لأردوغان وحزبه في ضعف المعارضة التركية وعدم توحدها، إذ أن الكتل الرئيسية في البرلمان التركي تعود إلى حزب «العدالة والتنمية» الحائز الغالبية البسيطة لمقاعد البرلمان، يليه حزب الشعب الجمهوري العلماني (يسار وسط) ثم حزب الحركة القومية اليميني المتطرف، والنواب الأكراد المنتخبون بصفة مستقل في البرلمان التركي. تقود النظرة السريعة لـ«الموزاييك» السياسي التركي إلى ملاحظة أن صعود حزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة منذ العام 2002 كان على أنقاض أحزاب اليمين التقليدي في تركيا مثل «الوطن الأم» و«الطريق المستقيم»، فإذا أضفنا حزب «الحركة القومية» اليميني المتطرف إلى ذلك، علمنا أن طائر تركيا السياسي الراهن يطير بجناح واحد فقط على اليمين من نظامه السياسي. وبسبب الضآلة النسبية لعدد مقاعد حزب «الشعب الجمهوري» والأكراد، يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن التوازن المفتقد بنيوياً بين اليمين واليسار في تركيا، هو أحد أقوى أسلحة حزب «العدالة والتنمية» في مواجهة خصومه. ومرد ذلك أن السياسة اليمينية لـ«حزب العدالة والتنمية» (الليبرالية اقتصادياً والمحافظة اجتماعياً)، لا يتم تحديها بأطروحات جذرية من غالبية الطيف السياسي التركي وإنما تتبلور المعارضة على خلفية هوياتية برع أردوغان في توظيفها لمصلحته. وبالرغم من التراجع الراجح في شعبية حزب «العدالة والتنمية» في أعقاب «انتفاضة تقسيم» الصيف الماضي، وتسجيلات الفساد المنتشرة منذ نهاية 2013، فالأرجح أن يبقى الحزب في مقدم الأحزاب التركية، وهو ما يفسر تحدي أردوغان لخصومه بأن حزبه سيحل أولاً في هذه الانتخابات لعلمه المسبق بذلك القصور البنيوي بين اليمين واليسار في تركيا. وللتذكير فقد حصل أردوغان وحزبه على 38,8 في المئة من الأصوات في الانتخابات البلدية عام 2009، ما سيعني أن أية زيادة في هذه النسبة ستشكل مادة للمزايدة بيد أردوغان حيال منافسيه. لكن في الواقع، أي نسبة أقل من 51 في المئة (غالبيته البرلمانية اللاحقة لانتخابات البلدية السابقة) في الانتخابات البلدية الحالية، ستعني تراجعاً في شعبية أردوغان المتراجعة بالفعل، ولكن نسب التراجع المحددة ستكشفها هذه الانتخابات البلدية، وبالتالي تستمد الأخيرة أهميتها من هذه النقطة تحديداً. ولا يغيب عن الأذهان أن حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى سيتطلب الحصول على الغالبية البسيطة للأصوات، وبالتالي تمثل الانتخابات البلدية بروفة أخيرة على الانتخابات الرئاسية ومؤشراً أقرب إلى الدقة على شعبية أردوغان بعد الأزمات الأخيرة.

أردوغان في مواجهة غولين

يواجه أردوغان داخلياً استقطابات أربعة تتمثل في حليفه السابق والنافذ رجل الدين المقيم في أميركا فتح الله غولين وحركة «الخدمة» التي يتزعمها عن بعد، وحزب الشعب الجمهوري الممثل السياسي الأقرب إلى تراث الجمهورية الكمالية، وحزب «الحركة القومية» اليميني المتطرف، وأخيراً الأكراد داخل البرلمان التركي وخارجه. تمثل الاستقطابات الأربعة تحدياً بشكل أو بآخر لأردوغان وحزبه، إذ أن فتح الله غولين حليفه السابق، يمتلك نفوذاً لا يلم به كثير من المحللين السياسيين داخل تركيا وخارجها. الأرجح أن أردوغان يعي هذا النفوذ ونطاقه، فغولين ساعده في كل الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها منذ العام 2002 وحتى الآن، حيث يقدر عدد الأصوات التي تخضع لتوجيهاته بأكثر من مليون شخص وفي تقديرات أخرى مليوني شخص. ويتهم أردوغان غولين بزعامة «دولة عميقة» داخل الدولة التركية ونفوذ مستشرٍ في مؤسسات الشرطة والقضاء ونفوذ ضخم بين الشباب وطلبة الجامعات بسبب المئات من المدارس والجامعات التي يمتلكها، وشبه الهيمنة الإعلامية التي يحظى بها عبر وسائل إعلامه النافذة. أما الحظوة الأخطبوطية في الحياة الاقتصادية التركية فلم يتم تقدير قوتها بدقة، والتي يقدرها البعض بحوالي عشرة في المئة من الاقتصاد التركي. والدليل الأوضح على نفوذ غولين ظهر مع التسجيلات الصوتية لأردوغان وأفراد عائلته ووزراء من حكومته، ولا يبدو معلوماً كيف يمكن لأردوغان التخلص من نفوذ غولين في المؤسسات التركية، خصوصاً أن حركة غولين سرية لا تعلن عن أسماء المنتمين إليها. ولا ينحصر نفوذ فتح الله غولين على الداخل التركي، إذ ان وجوده الطويل في بنسلفانيا الأميركية وما يشاع عن علاقاته النافذة هناك، يجعله قادراً على التأثير في وعي صناع القرار الأميركيين بأهميته ونفوذ حركته. هنا يشكل غولين تهديداً مباشراً لعلاقات أردوغان الدولية، مثلما يمثل الخصم الأول له على مستوى الداخل التركي. ومرد الخطورة الداخلية أن غولين لا يترأس حزباً سياسياً يمكن مقارعته بالوسائل السياسية، أو الاحتكام إلى القضاء في مواجهته بل عدواً خفياً، قادراً ونافذاً، بما يجعل خصومه مثل دون كيشوت، فكأنهم يحاربون طواحين هواء لا يمكن تعيينها بدقة.

المؤشرات

تفترض هذه السطور أن أردوغان وحزبه سيفوزان بأكبر كتلة من الأصوات، ولكن حجم الأصوات التي سينالها حزب العدالة والتنمية ستتراوح بين 35 في المئة و45 في المئة، ما يمثل تراجعاً لشعبية أردوغان. ستشكل نسبة الأصوات علاقة طردية مع انتخابات الرئاسة، بمعنى أنه كلما قلّت نسبة الفوز في الانتخابات البلدية، تراجعت حظوظ أردوغان في الترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة. وبالمقابل ستشكل هذه الانتخابات فرصة لكوادر الأحزاب التركية الكبيرة الأخرى لمنافسة زعامات أحزابها، فالمرشح لانتخابات البلدية كوراي أيدين سينافس دولت بهجلي زعيم حزب «الحركة القومية» على زعامة الحزب في حال نجاحه في الانتخابات البلدية، وهو الأمر الذي سينطبق على مصطفى ساريغول مرشح الانتخابات البلدية لحزب «الشعب الجمهوري» في مواجهة زعيم الحزب كمال كيليشيدار أوغلو. كما أن الفوز ببلديات اسطنبول وأنقره سيحظى بأهمية رمزية. فالأولى العاصمة التاريخية لتركيا والسلطنة والثانية العاصمة السياسية ومقر الوزارات وأجهزة الدولة المختلفة، وبالتالي ستولي الأحزاب المتنافسة أهمية خاصة لهاتين المدينتين بسبب أهميتهما الرمزية. كلما عزز حزب «العدالة والتنمية» حضوره في المدينتين، زاد نفوذه المعنوي. وعلى كل الأحوال سيلعب العامل الجهوي دوره أيضاً، حتى مع الامتعاض من اتهامات الفساد، ستصوت معظم بلديات في الأناضول لمصلحة أردوغان وحزبه، وهي الخزان البشري لداعميه وحزبه وتياره. بالمقابل سيجدد الغرب التركي مرة أخرى انحيازه إلى منظومة قيم مخالفة لتلك التي يتبناها أردوغان وحزبه، وبالتالي فالأرجح أن تهبط نسبة فوز حزب «العدالة والتنمية» نسبياً في هذه المناطق. وإذا عزز أردوغان نفوذه في الغرب التركي – وهو أمر مستبعد نسبياً – فسيذهب ذلك مؤشراً على تغلغله في البيئة الشعبية لخصومه.

الخلاصة

يواجه أردوغان أكبر تحد سياسي في تاريخه، الانتخابات البلدية محطة من محطات النزال الأخيرة قبل انتخابات رئاسة الجمهورية. لا يتوقع أحد أن تقلب الانتخابات البلدية الموازين السياسية في تركيا، ولكنها ستؤشر، باطمئنان كبير، إلى حجم الخسارة الفعلية التي مُني بها أردوغان منذ تلاحق الأحداث في العام الماضي وحتى الآن. وفي النهاية كلما اشتدت الأزمة السياسية في تركيا وضاق الخناق داخلياً على أردوغان، تراجعت قدرة أنقره على التأثير في جوارها الإقليمي، وهي النتيجة المضمرة والأهم إقليمياً لانتخابات البلدية التركية!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى