
في خطاب شكره للدول التي أسهمت في اتفاق خطته لإنهاء حرب غزة، ذكر الرئيس الأميركي دونالد ترامب تركيا أولاً ثم قطر ومصر، فيما كانت أنقرة حتى أيلول\سبتمبر الماضي غائبة عن واجهة مشهد الوسطاء بالحرب بخلاف الدوحة والقاهرة.
وفي أثناء عودة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من أذربيجان، أدلى بتصريح في الطائرة (8 تشرين الأول/أوكتوبر 2025) قال فيه إن «ترامب هو الذي طلب من تركيا إقناع حماس بقبول خطة إنهاء الحرب… وفي زيارة واشنطن (25 أيلول/سبتمبر)، وفي مكالمة تليفونية لاحقة، شرحت لترامب ما الحل المطلوب للقضية الفلسطينية».
وفي المؤتمر الصحافي لذلك اللقاء بين ترامب وإردوغان، قال الرئيس الأميركي: «إردوغان قام بحل المشكلة في سوريا، وهذا نصر كبير لتركيا، وأنا أرغب في أن أعزو الفضل له في ذلك» في إشارة إلى إسقاط نظام بشار الأسد.
هنا، يبدو أن دمشق وغزة كانتا طريق أنقرة إلى واشنطن، وفي ذلك المشهد لترامب وإردوغان في البيت الأبيض كانت الصورة معاكسة لفترة ترامب الرئاسية السابقة 2017-2021 عندما أصدر قراراً يخرج تركيا من برنامج تطوير طائرة أف 35 بسبب شرائها لصواريخ أس 400 الروسية وفرض عقوبات على «بنك خلق» التركي بسبب أنه كان وسيلة لإيران للتحايل على العقوبات الأميركية.
فما الذي تغيّر؟
في يوم 9 آب/أغسطس 2016، التقى إردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد ثلاثة أسابيع على محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة التي جرت للإطاحة بإردوغان والتي اتهمت فيها أوساط قريبة من الرئيس التركي واشنطن بالضلوع بها.
وبعدها بدأ تنسيق روسي- تركي في سوريا، قاد إلى تسليم شرق مدينة حلب للسلطة السورية (كانون الأول/ديسمبر 2016) مقابل تسهيل موسكو لعملية أخذ الأتراك والفصائل المسلحة لشريط جرابلس-الباب-إعزاز (آب 2016- شباط 2017) ولمدينة عفرين ومنطقتها (كانون الثاني-نيسان 2018) ولشريط رأس العين-تل أبيض (تشرين الأول 2019)، وبالتوازي كان دور أنقرة رئيسياً في إقناع فصائل المعارضة السورية المسلحة بإخلاء مناطق شمال حمص وغوطة دمشق الشرقية وحوران والانزياح نحو إدلب. وكان لافتاً أن يوقف اتفاق 5 آذار 2020 بين بوتين وإردوغان القتال بين المعارضة المسلحة والسلطة السورية ويثبت الخطوط بينهما حتى يوم 27 تشرين الثاني 2024.
وفي فترة «ما بعد حلب» تم إنشاء ثلاثيتي «أستانة» و«سوتشي» في ما يتعلّق بسوريا من موسكو وطهران وأنقرة، ليس فقط لـ«خفض التصعيد»، بل وحتى لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية رغماً عن واشنطن وبعيداً عن القرار الأممي 2254.
وهذا كان واضحاً في مؤتمر سوتشي (كانون الثاني 2018) الذي نظّمه هذا الثلاثي، ولولا مناورة «هيئة التفاوض» بالقبول بمخرجات سوتشي حول اللجنة الدستورية على أن ترعاها الأمم المتحدة لكان جرى حل سياسي سوري لا ترضاه واشنطن. أيضاً في تلك الفترة جرى تشييد خط «تورك ستريم» لنقل الغاز الروسي بخط أنابيب تحت البحر الأسود عبر تركيا إلى أوروبا، بعد توترات روسيا وأوكرانيا بسبب أزمة القرم 2014 والتي جعلت موسكو ترى الخط التركي (وخط أنابيب ما تحت بحر البلطيق) بديلاً من الخط الأوكراني. وأيضاً جرى شراء أس 400 والتي اعتبرها حلف الأطلسي خرقاً روسياً لأمنه عبر العضو التركي بالحلف.
وقد جرت آنذاك توترات تركية – أميركية كبرى بسبب تحالف واشنطن مع قوات سوريا الديموقراطية (قسد). وكان إردوغان كثير الحديث عن «الاتجاه شرقاً»، حتى وصل به الأمر لطلب الانضمام إلى مجموعة «البريكس»، وهو ما كان معاكساً لاتجاه أنقرة الأتاتوركية منذ 1923 نحو التغريب ونحو الانضمام لحلف الأطلسي عام 1951 ثم لطرقها الطويل الأمد منذ التسعينيات لباب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
على الأرجح أن بداية انزياح إردوغان الجديد نحو الغرب قد بدأ في تشرين الأول 2024 عندما رفضت مجموعة «البريكس» في قمة مدينة قازان الروسية، وعبر تلاقي موسكو وطهران في ذلك، الطلب التركي للعضوية. وكان لافتاً أن يترافق ذلك مع مبادرة زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، حليف إردوغان، نحو المصالحة والاتفاق مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، ثم أن يحصل بالشهر التالي، منذ عملية الهجوم على حلب التي انطلقت من إدلب (27 تشرين الثاني)، التعاون التركي-الأميركي الذي أشار إليه ترامب في مؤتمره الصحافي المذكور لإسقاط نظام بشار الأسد (8 كانون الأول).
هنا كان الهجوم على حلب في صباح يوم بدء الوقف لإطلاق النار في الحرب التي استغرقت شهرين بين إسرائيل وحزب الله بلبنان نفسه. وقد أطلقت تصريحات كثيرة آنذاك بأن الضربة الكبرى لحزب الله (وكذلك لمحور طهران الإقليمي) لا تتم في الجنوب أو في الضاحية الجنوبية، وإنما تتم عبر إغلاق الجسر السوري لطريق إيران-العراق-سوريا-لبنان-فلسطين. ومن يراقب المسار السوري خلال عشرة أشهر ما بعد بشار الأسد يلاحظ كم أن التقارب الأميركي-التركي في الملف السوري هو أكثر من تقاربات واشنطن-تل أبيب، أو واشنطن-الرياض، تجاه هذا الملف. ويلفت النظر أن توماس براك، السفير الأميركي لدى تركيا، هو المسؤول الأميركي عن الملف السوري (وكذلك اللبناني)، والأرجح أيضاً أنه هو المسؤول الأميركي عن الملف الكردي بشقيه الكردي التركي والكردي السوري.
في هذا الصدد، يجب أن تضاف محطة ثالثة، غير محطتي دمشق وغزة الواصلة في الطريق بين واشنطن وأنقرة، هي محطة «العالم التركي»؛ حيث شهد يوم 8 آب الماضي حفل التوقيع في البيت الأبيض للاتفاق الأذربيجاني-الأرميني لإنهاء حال العداء لثلاثة عقود بينهما والتي ولدت ثلاثة حروب ما بين عامي 1993 و2023.
وعبر ذلك الاتفاق تم إنشاء «خط ترامب» الواصل برياً عبر الأراضي الأرمينية للعالم التركي ما بين تركيا والشمال الغربي الصيني.
هذا العالم التركي، والذي يضيف له القوميون الطورانيون الأتراك منطقة تركستان الصينية حيث تعيش قومية الإيغور في شمال غرب الصين، يبدو أن هناك طموحاً أميركياً لتتبيعه سياسياً وأمنياً-عسكرياً واقتصادياً للمدار الأميركي، ليس فقط بوصفه حاجزاً جغرافياً بين الصين وروسيا (وأيضاً بين روسيا وإيران) وإنما من منظار ما قاله زبغنيو بريجنسكي، وهو أهم مفكر سياسي أفرزته الولايات المتحدة بالقرن العشرين مع هنري كيسنجر وصموئيل هنتنغتون، إن «الكيفية التي ستتعامل بها أميركا المنشغلة بشؤون العالم مع مجمل علاقات القوة الأوراسية المركبة، وخصوصاً ما إذا كانت ستحول دون ظهور قوة أوراسية مسيطرة ومناهضة لها، تظل مهمة جداً بالنسبة إلى قدرة أميركا على ممارسة السيادة العالمية… وهكذا فإن أوراسيا هي رقعة الشطرنج التي تدور عليها المعركة المستمرة من أجل الحصول على الزعامة السياسية العالمية» (مقدمة كتاب بريجنسكي: «رقعة الشطرنج الكبرى»، المؤرخة في نيسان 1997، ص.12، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، طبعة 1999)؛ حيث تبدو الحركات الأميركية–التركية موجهة في أوراسيا (8 آب 2025) ضد الصين–روسيا ومعهما إيران، وفي دمشق (8 كانون الأول 2024) ضد إيران وروسيا ومعهما الصين التي تخطط عبر مشروع «الحزام والطريق» منذ عام 2013 لطريق نحو منطقة الشرق الأوسط ومنها لأوروبا وأفريقيا، وفي غزة (9 أكتوبر 2025) ضد إيران.
هنا، تفكير بريجنسكي منصب على الجغرافية السياسية لخط الصين-روسيا والتي كان تفكير تفريقهما هو ما جمعه مع كيسنجر في فترة الحرب الباردة، وبالتأكيد الهاجس الأكبر لصانعي القرار الأميركي الآن هو تحالف بكين-موسكو الظاهر منذ حرب 2022 الأوكرانية والذي يبدو أن ثالثهما هو طهران. ويبدو أن الكسب الأميركي لأنقرة أخيراً هو الذي أسهم في الضربات الموجعة الثلاث لهذا الثالوث في دمشق وأوراسيا وغزة. إلا أن ما يضاف إلى هذا الهاجس الأميركي هو تأمين الطاقة النفطية-الغازية البديلة للقارة الأوروبية عن الطاقة الروسية، بعد الضغط الأميركي لفطام أوروبي عن تلك الطاقة بعد نشوب الحرب الأوكرانية.
وهذا البديل لا يتم من دون نفط وغاز الشرق الأوسط وغاز تركمانستان وأذربيجان في منطقتي بحر قزوين والقوقاز، والممر التركي أساسي لطريقي الطاقة من هناك ومن الشرق الأوسط، وكذلك الممر السوري، وهذا ما يثير الهواجس الإسرائيلية من أن الممرين السوري والتركي هما البديل من إسرائيل لمشروع «الكوريدور الهندي» الموقّع عليه قبل شهر من يوم 7 أكتوبر 2023 بما فيه أنابيب الطاقة النفطية-الغازية الواصلة إلى حيفا ثم إلى أوروبا تحت البحر المتوسط. وهذا ما يدفع تل أبيب إلى هذا الاهتمام الكثيف بالموضوع السوري، وخاصة جنوب سوريا، الذي تستخدم فيه إسرائيل أمثال الشيخ حكمت الهجري من أجل الضغط على ملفات هي بعيدة كثيراً عن السويداء والدروز و«الدولة الدرزية».
صحيفة الأخبار اللبنانية



