الانقلاب التركي والسياسة الخارجية سوريا، إيران، روسيا، السعودية وأوروبا
كانت تركيا قبل محاولة الانقلاب الفاشل قد أخذت بلملمة أوراقها لإعادة ترسيم سياستها الخارجية وفقاً للتطورات الإقليمية الخطيرة التي استجدت، والتي يبدو أنها كانت أسرع من تأقلم تركيا معها. فأحيت علاقتها بإسرائيل (بتكلفة امتعاض شعبها)، وأعادت تعزيز علاقتها بروسيا (بتكلفة اعتذار وبعض من «كرامة وطنية»)، وحاولت ترطيب علاقتها بأوروبا، وتهدئتها مع الولايات المتحدة التي كانت في حالة من الشدّ والجذب.
جاءت محاولة الانقلاب الفاشل لتبعثر أوراق تركيا مرة أخرى، فتعزز بعض ما كانت قد رسمته من سياسات خارجية وتغيّر بعضها الآخر. صحيح أن الانقلاب قد أجبر أردوغان وحكومته على الانشغال بالوضع الداخلي وبحملات العزل والتطهير، وبإعادة تظهير علاقته بالمجتمع التركي وبالأحزاب السياسية المعارضة، إلا أنه قد خالف التوقعات التي تحدثت عن انطواء تركيا على ذاتها إلى أمد طويل قبل أن تعود لتلعب دوراً في الساحة الإقليمية.
نعم لقد غابت لأسبوعين، مثلاً، أخبار سوريا وتصريحات المسؤولين حولها عن الحياة السياسية التركية، وهي التي كانت محور سياسات تركيا الخارجية وعنوانها الأبرز في علاقاتها الدولية، خاصة مع الولايات المتحدة، وأوروبا، وروسيا، وإيران. ولكنّها لم تلبث أن عادت تدريجاً بالتوجه المعارض للأسد ذاته، مع بعض ليونة كانت القيادة التركية قد أبدتها أصلاً قبل الانقلاب، لتطرحها دولياً من جديد وبقوة في عدد من الاجتماعات، أهمها اجتماع أردوغان بالرئيس بوتين في سان بطرسبورغ.
طبعاً لم تلتئم بعد كل الجراح التي فتحها الانقلاب وستبقى ندباتها مطبوعة في الحياة السياسية، غير أن أردوغان استطاع ـ حتى الآن ـ أن يمسك بالساحة الداخلية بحزم، بفضل حملات التطهير والالتفاف الشعبي حوله والانصياع الحزبي له في إطار حالة الطوارئ المشددة. وبدأ «بإعادة إقلاع» خارجي هادفاً إلى إعادة تركيا إلى الساحتين الإقليمية والدولية. هذه الانطلاقة ستكون بلا شك محكومة بالمعطيات الجديدة التي استولدها الانقلاب داخلياً وخارجياً. فالتقارير تشير إلى أن القيادة التركية قد أجرت تقييماً لمواقف حلفائها وخصومها في أثناء الانقلاب وبعده، وحددت مَن منهم حسم موقفه معها من البداية، ومَن تردّد، ومن تلكأ. وكان للولايات المتحدة نصيب دسم من إعادة التقييم والتصنيف.
وهكذا يمكن إيجاز تأثير الانقلاب على علاقات تركيا الإقليمية والدولية كما يلي:
تأثير الانقلاب على الموقف التركي من الوضع في سوريا:
لم يكد يمرّ أسبوعان على ليلة الانقلاب، حتى كان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، يلتقي برياض حجاب، منسّق الهيئة العليا للمفاوضات المنبثقة عن المعارضة السورية، وأنس العبدة، رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، في أنقرة في الأول من آب الجاري. شكّل هذا اللقاء مقدمة لإعلان أنقرة بأن موقفها من الأزمة السورية لم يتبدل وخاصة «لجهتي تضامنها مع الشعب السوري، وتأكيدها ضرورة رحيل بشار الأسد».
وما لم يقله الإعلام التركي، أفادتنا به مصادر ديبلوماسية، بأن هذا اللقاء كان «الواجهة السياسية» للقاء أمني عسكري في أنقرة جمع بين مسؤولين من الأجهزة الأمنية التركية الممسكة بملف الجبهة الشمالية السورية، وقيادات فصائل المعارضة السورية الموجودة في تلك الجبهة، لا سيما في حلب. تربط المصادر بين هذا الاجتماع والمعارك الأخيرة في حلب والتي أعلنت بعدها المعارضة عن فك الحصار عن بعض أحياء المدينة، لتشير إلى أن تركيا لا زالت رقماً قوياً في معادلة الحرب السورية.
وفي هذا السياق، نشير إلى معلومات تفيد بأن كثيراً من ضباط الجيش الكبار المفصولين على خلفية الانقلاب كانوا من قادة الألوية الممسكة بالحدود مع سوريا ممن يرفضون التواصل مع فصائل المعارضة وتسليحها، حيث كانوا يعرقلون خطط المخابرات التركية وقنوات تواصلها مع الميليشيات المسلحة في الداخل السوري.
تأثير الانقلاب على العلاقة مع روسيا:
سرّع الانقلاب في خطوات التقارب بين أنقرة وموسكو. فبوتين كان ثاني رئيس دولة يتصل بأردوغان (بعد الرئيس الكازاخستاني) ليعرب له عن إدانته للانقلاب وعن وقوف موسكو إلى جانب تركيا وحكومتها. ووسائل الإعلام الروسية كانت تنقل من دون تورية وجهة النظر المؤيدة لأردوغان، حتى بدا وكأن روسيا هي التي تراهن على بقاء أردوغان في السلطة في الوقت الذي أطبق الصمت على أفواه حلفائه في الناتو وأغشاهم الارتباك.
كانت إشارات الطمأنة التركية قد وردت إلى موسكو جلية ـ بعد رسالة الاعتذار وبأهم منها ـ عندما أحبطت تركيا حماسة الولايات المتحدة خلال قمة الناتو في 8 ـ 9 تموز في وارسو، للدفع بوجود دائم لقوات الحلف الأطلسي في البحر الأسود. فهمت أنقرة أن خطط واشنطن تهدف إلى تحدّي الوجود الروسي التاريخي في تلك المياه، وتطويق الأسطول البحري الروسي في سيفاستوبول، وتهديد شبه جزيرة القرم؛ كل هذا على حساب تهديد علاقات تركيا بجارتها روسيا إرضاءً لبعض دول الناتو وبإغفال تام لمصالح تركيا.
استحضرت تركيا اتفاقية المضائق (مونترو ـ 1936) التي تمنع أيّ وجود بحري دائم في المنطقة لغير دول البحر الأسود وتعطي السيطرة لتركيا على مضائق البوسفور والدردنيل. وهكذا، أفهمت أنقرة الجميع، بمن فيهم واشنطن وموسكو، أنه من دون تعاون تركيا، تحبط كل خطط الناتو لتطويق روسيا في البحر الأسود (أو الأبيض المتوسط).
وسرعان ما استغل أردوغان التعاطف الروسي بعد الانقلاب، واستغل بوتين موجة الغضب التركي العارم ضد الناتو وواشنطن، ليتفقا على زيارة لأردوغان إلى روسيا، هي الأولى له خارج تركيا بعد الانقلاب، وأوّل لقاء قمة بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية. يجيد كلا الرئيسين لعبة شد الحبال وجذبها مع حلفائهما قبل خصومهما: فأردوغان يريد أن يثبت للغرب أنه لم يحرق جسوره الشمالية مع روسيا، وأنه لن يكون رهينة تحالف غير موثوق تخلى عنه في وقت المحنة. وبوتين يريد أن يثبت دور روسيا الوازن في المنطقة الذي لا يمكن تجاوزه ولا إلغاؤه بعقوبات اقتصادية أو بأحلاف باتت المصالح المتضاربة فيها تهز أساساتها.
تأثير الانقلاب على العلاقة مع إيران:
لا زالت هذه العلاقة كما هي تاريخياً: جدلية، فاترة، مستقرة مع تقلبات موسمية. فالخلاف لا يزال على أشده في ما يخص السياسات الإقليمية، لا سيما في سوريا والعراق، ولكنه منتظم في العلاقات التجارية وبعض الشؤون الدولية. تقول المعلومات إن إيران شكّلت ـ فور توارد أنباء محاولة الانقلاب ـ غرفة طوارئ سياسية أمنية استخبارية، برئاسة الرئيس روحاني. كان نجما هذه الغرفة قاسم سليماني وعلي شمخاني اللذين عكفا على إجراء تقييم شامل للوضع في تركيا، ولسيناريوهات الفوز والخسارة، بعد حملة اتصالات مكثفة بنظرائهما الأتراك، حيث خلصت الغرفة إلى أنه لا بديلَ تركياً أفضل من أردوغان حالياً بالنسبة لمصالح إيران في المنطقة (إنْ لناحية جماعة فتح الله غولن المشبوهة بعلاقاتها الدولية، لا سيما بأميركا وإسرائيل، أو لناحية الأحزاب التركية المعارضة العلماني منها أو القومي المتشدد، أو لناحية الجنرالات «الأطلسيين» الأتاتوركيين).
وهكذا أُعطي الضوء الأخضر لوزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي نشر سلسلة من التغريدات قبل انتظار فشل الانقلاب يعلن فيها دعم طهران للحكومة التركية. لاحقاً اتصل الرئيس روحاني بالرئيس أردوغان ليعلن بعبارة ذات دلالات «إن محاولة الانقلاب اختبارٌ لتحديد أصدقائكم وأعدائكم في الداخل والخارج». وقد حلا للإعلام الإيراني مقارنة سرعة تحرّك إيران وتحديد مواقفها بتلكؤ السعودية وإعلامها، واستحبّ كذلك نشر بعض قصص «نظريات المؤامرة» التي تحدثت عن دور سعودي ـ إماراتي في محاولة الانقلاب.
تأثير الانقلاب على العلاقة مع السعودية:
يعلن الطرفان، السعودي والتركي، أن علاقاتهما ممتازة وتسير بما يرضي الطرفين ويحفظ مصالحهما. «العدو الواحد» يجمعهما في سوريا، والتهديد المشترك يوحّدهما في المنطقة أمام «النفوذ الشيعي الفارسي». غير أن ثمة علامات استفهام في مكان ما بحاجة إلى توضيح، أهمها علاقة كليهما بتنظيم الإخوان المسلمين العالمي، الذي يلتقي معه أردوغان عقائدياً، والذي تحاربه الرياض في أرضها وفي دول الخليج العربي، وتتجاهله في مصر، وتدعمه في سوريا، وتتحالف معه في اليمن، وتتسامح معه في فلسطين (غزة) وتتخذه شريكاً في تركيا.
تأخّرت الرياض نسبياً في إدانة الانقلاب وإظهار تأييدها لأنقرة، والملك السعودي لم يتصل بأردوغان إلا بعد يومين. تُرجع مصادر ديبلوماسية هذا الأمر إلى طبيعة الديبلوماسية السعودية المتحفظة بطبعها والمتروية باتخاذ المواقف وإصدار البيانات، وليس إلى أي خلاف جوهري. على أن بعض التقارير لمّح إلى علاقة «سرية قديمة وقوية» بين السعودية وزعيم تنظيم «خدمة» فتح الله غولن، لا سيما في تمويل عدد من مدارسه في القارة الأفريقية.
تأثير الانقلاب على العلاقة مع أوروبا:
لم يعد سرًّا هذا الجو المشحون من البُغض والعداء وانعدام الثقة المتبادل بين أوروبا وتركيا. وما كان يقال ويكال على الصعيد الشعبي بين الطرفين انتقل ليصبح علناً وعلى لسان المسؤولين هنا وهناك. قبل الانقلاب كان مستوى العلاقات قد وصل إلى درك سحيق لم يصله من قبل. فبعد الجو الايجابي المؤقت الذي ساد في أثناء عملية التفاوض على «اتفاق اللاجئين» وبعدها، تدهورت الأمور بسرعة بعدما اتهمت أنقرة بروكسل بالمماطلة في تنفيذ الجزء المتعلق بها من الاتفاق الخاص بإعفاء دخول المواطنين الأتراك إلى دول الاتحاد من سمة الدخول.
وساهم وصول اليمين المتشدد إلى السلطة أو ازدياد قوته في عدد من دول الاتحاد في إذكاء نار الحقد التاريخي المكنون واستثارة القوميات والعصبيات الدينية. «منذ ثلاثة وخمسين عاماً وعدتنا أوروبا بالعضوية ولم ننجز إلا فصلاً واحداً من فصول الانضمام الخمسة والثلاثين، فيما بلد صغير ككرواتيا بدأ المفاوضات عام 2005 ووقع العضوية عام 2011! هل يظنون اننا سنستجدي العضوية منهم استجداء؟» إن لصبرنا حدودا؛ «أوروبا لا تريد بلداً كبيراً مسلماً في عضويتها»، «من دون مواربة ورياء فليقلْها الأوروبيون انهم لا يريدوننا لأننا مسلمون». وفي المقابل تصدح تصريحات أوروبية من مثل «لا مكان في أوروبا لدولة لا نكهة أوروبية لها»، و «الفجوة الديموقراطية والاقتصادية والثقافية بيننا وبين تركيا كبيرة جداً» و «على أوروبا ألا تخضع للابتزاز التركي»، و «أوروبا لا تريد تكرار تجربة العثمانيين معها»… إلخ.
وما كان مضبوطاً قبل محاولة الانقلاب بجهود مضنية من قبل «بعض العقلاء» في الجانبين، انفلت من عقاله بعد ليلة الخامس عشر من تموز لتسود لغة المعاداة التي وصل بعضها إلى إهانات وتجريح. فقد جاءت حملات الاعتقال والتطهير التي شنتها السلطات التركية لتعطي الأوروبيين مادة دسمة لتفريغ ما في صدورهم من كلام لم يستطيعوا قوله سابقاً. «لا مكان لتركيا الديكتاتورية في أوروبا»، «إن مفاوضات الانضمام مع تركيا أصبحت من الخيال»، «على أوروبا أن تتخلى فوراً عن أي مفاوضات مع تركيا»، «ليس هناك أي أمل في انضمامها في العشرين سنة القادمة». ليردّ مسؤولون أتراك: «علينا أولاً أن نتأكد من وجود اتحاد أوروبي بعد عشرين سنة»، و«المنافقون ظهروا على حقيقتهم».
وقد تولى أردوغان شخصياً بعضاً من حملات الهجوم على أوروبا فقال إن مدّعي الديموقراطية لم يقلقوا أبداً على محاولة تهديمها على أيادي عصابة إرهابية. لم يتصل أحد منهم بنا ليشجب الانقلاب ويقف إلى جانب الحكومة المنتخبة من الشعب، لم يغضبهم قتل ثلاثمئة شخص، لم يوجهوا كلمة تعزية، لم يستنكروا قصف البرلمان ـ بيت الشعب. لم يغضبوا بسبب الانقلاب بل غضبوا على اعتقال الانقلابيين والمتعاونين معهم في جرائمهم بعد الانقلاب. «يا له من نفاق!»
إذاً، مع توقع فشل المحادثات حول تحرير سمة الدخول كاستكمال للاتفاق حول اللاجئين، وتوقع عودة تدفق اللاجئين السوريين إلى القارة العجوز من على شواطئ اليونان، تكون العلاقة بين أوروبا وتركيا قد أسقطت كل أقنعتها التجميلية وظهرت على حقيقتها العارية البشعة: أوروبا المسيحية لا تريد تركيا المسلمة.
في الجزء المقبل: تأثير الانقلاب على علاقة تركيا بالولايات المتحدة.
صحيفة السفير اللبنانية