البحث الأدبي بين الجامعات المصرية والأوروبية
في كتابه “البحث الأدبي طبيعته، مناهجه، أصوله، مصادره” أوضح د. شوقي ضيف الأسس والشروط اللازمة لإنتاج بحث أدبي جيد، بدءا باختيار الموضوع وانتهاء بكتابة البحث وإخراجه في صورته النهائية: فعلى الباحثين المبتدئين ألا يلجأوا إلى أساتذة الجامعات لاختيار موضوعات لهم بل ينبغي أن يهتدوا لها بأنفسهم ومن خلال قراءاتهم الدائبة، وألا يتسعوا ببحوثهم فكلما ضاقت الموضوعات كانت أكثر صلاحية للبحث حتى يستطيعوا أن يحيطوا بأطراف الموضوع ويتعمقوا في أغواره، وأن يختاروا موضوعات تتوافر لهم فيها أدوات البحث كاملة، وأن يكون الباحث واسع الثقافة بالآداب الغربية وبالآداب العربية وتطورها على مر العصور، وأن يهتم بتنسيق مواد بحثه وترتيبها ترتيبا منطقيا بحيث يكون البحث متلاحما في فصوله وفِقَره وكأنه بناء واحد متكامل، ولا بد من الاستقراء التام والاستنباط الدقيق المدعم بالنصوص والأسانيد، والتفسيرات الدقيقة هي قوام البحوث الأدبية وعمادها، وأن يمتلك الباحث مهارة في التذوق الأدبي، مع دقة العرض وتجنب الحشو، واستخدام أسلوب واضح فصيح.
عندما ننظر إلى الأبحاث الأدبية التي تنتجها جامعاتنا اليوم نجدها بعيدة تماما عما ذكره د. شوقي ضيف، فهي تعاني من الضعف والجمود والتقليد وتكرار ما قيل في دراسات سابقة دون تقديم جديد، على الرغم من أن عدد صفحات البحث قد تتجاوز 300 أو 400 صفحة وربما أكثر، ولكنها قائمة على الحشو وحشد المعلومات وكثرة النقول التي يرصها الباحث بعضها فوق بعض دون تحليل أو مناقشة مما يؤدي إلى طمس شخصية الباحث تماما. وبالرغم من أن هذه الأبحاث يعدها باحثون في أقسام اللغة العربية وآدابها إلا أنها تمتلئ بالأخطاء اللغوية!
ولذلك أسباب عديدة لا تخفى على كل من له صلة بالنظام التعليمي، طالبا كان أو أستاذا. من هذه الأسباب مثلا أن الطالب يلتحق بالكلية أو القسم بناء على مجموعه في الثانوية وليس بناء على موهبته أو مجال شغفه، ومن ثم يكون غير قادر على الإبداع، وخلال أربع سنوات هي مدة الدراسة الجامعية لا يتلقى الطالب ما يكفل له تكوينا علميا سليما مما يؤدي إلى باحث ضعيف غير متمكن من أدواته.
وفي ظل نظام الساعات المعتمدة ذي التكلفة المرتفعة والذي أصبح معمولا به في معظم الجامعات المصرية منذ سنوات صار الالتحاق بالدراسات العليا متاحا فقط للقادرين ماديّا وليس للنابهين من الطلاب. وكثيرا ما يكون هدف الطالب من وراء التحاقه الحصول على وظيفة لا سيما في السلك الأكاديمي أو لأسباب أخرى لا علاقة لها بحب العلم والبحث والرغبة في الإضافة. وهناك سمة غالبة على الباحثين تتمثل في رغبتهم في إنجاز الرسالة في أقل وقت ممكن للحصول على الدرجة بغض النظر عن جودة ما يقدمون.
وإذا كان الأساتذة يضعون الطلاب دائما موضع الاتهام، فإن الطلاب بدورهم يشكون افتقادهم التوجيه والمتابعة والتشجيع من قِبَل أساتذتهم ومشرفيهم ومن ثم يعتمدون على الاجتهاد الشخصي، وأنهم تُفرَض عليهم في مرحلة التمهيدي مقررات بعيدة عن مجال التخصص الذين ينوون إعداد رسائلهم فيه، ويكون الاعتماد على كتاب أستاذ المادة الذي يطالَبون بحفظه، كما أن تقييم الأستاذ للطالب كثيرا ما تحكمه المجاملات والعلاقات الشخصية، وبالرغم من ارتفاع المصروفات التي يدفعونها إلا أنهم لا يجدون صدى لهذه الأموال في العملية التعليمية، فقاعات الدرس مكدسة وغير مجهزة، كما أن المكتبات تعاني فقرا في المصادر والمراجع. وقد أخبرتني طالبة ماجستير بأحد أقسام اللغة العربية أن الموظفة المسؤولة عن مكتبة القسم للدراسات العليا لا تقوم بفتحها سوى ساعتين فقط في اليوم!
د. السعيد الورقي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب جامعة الإسكندرية يقول: الهدف من العملية التعليمية سواء في مرحلة الليسانس أو في الدراسات العليا لا ينبغي أن يكون تزويد “كم” المعلومات أو حشدها في ذهن الطالب، فالمعلومات موجودة في الكتب ويمكن الرجوع إليها في أي وقت، ولكن أن يمتلك الطالب المنهج والأدوات اللازمة لتحصيل المعرفة وأن تصبح لديه القدرة على التفكير والمناقشة.
ما يحدث لدينا أن معظم الأساتذة يقدمون العلم للطلاب على أنه معلومة تُحفَظ لتوضع في ورقة الإجابة. حتى على مستوى الدراسات العليا في ظل نظام الساعات المعتمدة أصبح الاعتماد على كتاب مقرر مما يحصر الطالب داخل إطار ضيق من المعلومات والآراء يعتاد الطالب حفظها فيصبح عالة على آراء الآخرين ويرتبك إن هو خرج عن الكتب المقررة أو طُلِبَ منه التعبير عن رأيه بحرية، وهو ما يجعل هذا النظام فاشلا في جامعاتنا رغم نجاحه في الخارج.
ما الفائدة من أن يكرر الباحث ما قاله سابقوه؟! عليه أن يبدأ من حيث انتهوا، فالمعرفة بحث ونظر في كل ما قيل والعمل على تقديم جديد وليس نقلا من هنا وهناك، وتقدم البحث العلمي لا يكون بالتكرار ولكن بالابتكار. ولا يمكن إعفاء الطالب تماما من المسؤولية والنظر إليه على أنه ضحية دائما، بدليل أن هناك طلابا تكون لديهم رغبة حقيقية في التعلم ولديهم عقلية الباحث لا عقلية من يريد الحصول على الشهادة فقط ، ومثل هؤلاء يشجعون الأساتذة بل يجبرونهم على أن يواصلوا معهم رحلة المعرفة والبحث بحماس.
* بين مصر وألمانيا
د. محمد متولى عاد من ألمانيا قبل أشهر بعد حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة برلين في تخصص النقد الأدبي، وهو يُدرِّس البلاغة والنقد بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، يقول: نحن نعاني من حالة عامة من غياب الإبداع أصابت الأدب كما أصابت غيره من المجالات. وجُلّ من يشتغل بالدراسات الأدبية لدينا يريد أن يحصل على درجة الماجستير ثم الدكتوراه ليحمل لقب “دكتور” دون أن يبذل ما يلزم من جهد.
وقد أصبحت الدراسات العليا نوعا من الترف لمن يمتلك وقت فراغ يريد تزجيته. هذا بالإضافة إلى تعسف الأساتذة في كثير من الأحيان ومحاولتهم فرض سلطتهم على الباحثين دون أن يقدموا لهم شيئا مفيدا من التوجيه والإرشاد ينفعهم في مسيرتهم العلمية. إن أكثر ما يميز الدراسة في ألمانيا الحرية التي يتمتع بها الطالب، ففي مرحلة الماجستير يختار ما يشاء من المقررات مع من يشاء من الأساتذة، أما في جامعاتنا فالطالب مجبَر على دراسة ما يُقَدَّم إليه، وهذه الحرية هي التي تيسر للدارسين التفوق والإبداع، إلى جانب قلة عدد الطلاب، وتوافر الأدوات والوسائل التعليمية والقاعات. والدراسة هناك مجانية بالرغم من ارتفاع مستوى المعيشة والدخل. وتتسم العلاقة بين الطلاب والأساتذة بالود والألفة.
وفي مرحلة الدكتوراه يقتصر عمل الباحث على إعداد الرسالة العلمية، لكن طبيعة الإشراف تختلف، فالمشرف هناك يحرص على قراءة ما يكتبه الطالب ومتابعته في كل مرحلة من مراحل البحث ومناقشته فيما يعرض له من أفكار ومشكلات.
وإذا تحدثنا عن المكتبات وتيسير سبل التعامل معها فقد يطول الحديث طولا لا حد له، فقد فتنتني المكتبات هناك فتنة كبرى، ويكفي أن نعرف أنها تفتح أبوابها للجمهور من التاسعة صباحا حتى العاشرة ليلا، وهي مزودة بكل ما يكفل راحة الباحث، ويتميز نظام الاستعارة بمرونة كبيرة حيث يمكن للباحث استعارة 30 كتابا أو أكثر لمدة أربعة أسابيع قابلة للتجديد.
وعن كيفية الارتقاء بالدراسات الأدبية في مصر يرى ضرورة إتقان باحثينا للغات الأجنبية كي يكونوا قادرين على التعرف إلى المناهج الغربية، لفتح آفاق جديدة للدراسات الأدبية المقارنة. والتحلي بالإخلاص والاجتهاد، والرغبة في تقديم شيء مفيد. كما يجب وضع خُطَّة علمية تُخصِّص موضوعات أو اتجاهات بعينها للدراسة وفق رؤية واضحة تضعها الأقسام والكليات وألا يكون التسجيل وفق الهوى.
ميدل ايست أونلاين