كتب

البحث عن الضوء.. اللاقصيدة والضوء لأيمن باي

البحث عن الضوء.. اللاقصيدة والضوء لأيمن باي.. قليلة هي الكتب التي تحدّد هدفها وموضوعها منذ عنوانها الخارجي، فالكثير من الكتب النقدية يحمل عنوانها الخارجي طموحات كبيرة، ولكن ما إن تعبر منه إلى المتن الداخلي، حتى تكتشف أنك قد وقعتَ ضحية لإغراءات العنوان، بما تبتغيه من استمالة القارئ، والترويج التجاري للكتاب، وهو ما يعد احتيالاً وابتزازًا فكريًّا لو جاز المعنى، وكذلك نادرة هي الكتب التي تُخضع نوعًا أدبيًّا (مستقلاً) للدراسة والتحليل، في ظل الدعوة إلى الانفتاح والعبور الأجناسي، فثمة كتب بمثابة “الكشكول” على نحو ما تؤكده دلالة الكلمة في سياقاتها المختلفة التي استخدمت فيها، ككتب أو مجلات أدبية، أي أنها تحوي جميع الأشكال والفنون في داخلها، ومن ثم يصعب الوقوف على منهج قرائي لها، بسبب تعدد الأنواع التي تستلزم – بالتبعية – مناهج متباينة وفقًا لطبيعة كل نوع. وقد جاء كتاب أيمن باي الذي سأستعرض أهم القضايا التي طرحها، خاليا من الأحابيل التي تقود القارئ إلى الوقوع في شرك العنوان، وفي نفس الوقت التزم بإخضاع نوع أدبيّ محدّد وهو الشعر للإجراءات النقدية، حتى الأنواع البعيدة عن الشعر التي تضمنها الكتاب والمقاربات، جاءت من زاوية الشعر، لا من زاوية الجنس الذي تحمله.

يحمل كتاب الناقد التونسي أيمن باي عنوانًا لافتًا وباعثًا للتساؤل هكذا “اللاقصيدة والضوء: مقالات في النقد الأدبي“ وهو صادر عن (shams publishing) في 2021،التساؤل مفادة لفظة اللاقصيدة، المضادة في المصطلح النقدي للفظة القصيدة، فتتبادر إلى الذهن تساؤلات ملحة عن المقصود باللاقصيدة!  هل المعنى المقصود هو المستقى من المعنى الحرفي للتضاد السلبي؛ بكل ما يحمله من دلالات نفي الشعرية عن النص، ومن ثمّ تنحيتها عن معنى القصيدة المتداول، وأعتقد أن هذا غير مقصود بالمرة، فبمجرد نظرة لمحتوى الكتاب، نكتشف أن الكتاب يحتفي بنصوص لشعراء مهمّين، على اختلاف تجاريهم الشعرية، إضافة إلى اختلاف السياق الزماني والمكاني (العراق، سوريا ، تونس) أمثال: أبوالقاسم الشابي، أنسي الحاج، نوري الجراح، آدم فتحي، فتحي النصري، محمد الصغير أولاد أحمد وعادل المعيزي. فإنتاج هؤلاء الشعراء يشهد بالمغايرة والتمرد على الشكل الكلاسيكي للقصيدة، واختلاق تقنيات كتابية تتوسّد الجديد والمغاير، وهو ما يقودنا إلى المعنى الثاني الذي يتردد على الذهن، وهو معنى ضارب في الحداثة، ويحمل في جيناته معنى التمرد على النسق  الشعري الكلاسيكي أو على “عيار الشعر” – كما في اشتراطات النقاد – لو استخدمنا مفردة عنوان كتاب”ابن طباطبا العلوي“، وأيضًا معاييره، وهو ما يؤكده الناقد في الفصل الذي حمل عنوان “اللاقصيدة ونفي المعيار“، وهو فصل يدخل في باب السّجال الفكريّ مع عدد مجلة “الجديد” الذي حمل عنوان “القصيدة والمعيار” في محاولة للوقوف على توجهات الشعرية الحديثة، ومدى مشروعية التجديد الذي بشّر به جيل الشعراء الحداثيين. والأهم ما هو المعيار الذي يحكم بناء القصيدة في عالم اليوم؟ وهل ما زال الناقد يقود الشاعر بقنديله إلى الخلاص؟

ويرى الناقد أن اللاقصيدة تمثّل النقيض على مستوى الشكل والدلالة للقصيدة الكلاسيكيّة؛ فاللاقصيدة عنده بمثابة “الكتابات الشعرية الحداثيّة التي لم تكتفِ بالخروج عن الوزن والقافية، ولم تستقر في قصيدة النثر كنوع شعري حديث، بل ذهبت بالتجريب إلى مدى أبعد، لا تبصره عين ناقد ولا ذائقة قارئ، فلئن كانت القصيدة هي شكل واحد مغلق، هو المعيار، فإن اللاقصيدة هي المعادل الإبداعي للمطلق والمحتمل واللانهائي لتجارب لا تكف عن التحول والتطور لأنها خارجة عن أي معيار، تبتكر قوانينها في كل مرة بطريقة مغايرة”.

في الحقيقة المعنى المقصود لا غبار عليه، وهو سمة الحداثة والتجريب اللتيْن انتهجهما جموع الشعراء منذ القديم وليس الآن، ربما منذ ثورة الشعر التي تبنتها نازك الملائكة في كتابها “قضايا الشعر الجديد”. المعيار الحقيقي يكمن في الجديد والإضافة التي ترقى بالقصيدة إلى مكانها الحقيقي في حركية الأنواع، لكن غياب المعيار يؤدي إلى فوضى كتابية، في ظل انتشار وسائط جديدة والأهم وجود ذائقة جديدة أيضًا. يرسم المؤلف في المقدمة القصيرة خطاطة لأقسام الكتاب الثلاثة، الذي في أصله مجموعة من المقالات المتفرقة نُشرت في سياقات زمانيّة ومكانيّة مختلفة، يجمعها – في ظني – عنوانان أساسيان، الأول؛ الشعر والبحث عن جمالياته سواء بتحليل نصوصه الشعرية، كقراءته لمجموعة من النصوص الشعرية لآدم فتحي، ومحمد الصغير أولاد أحمد، وعادل المعيزي، ونوري الجراح، أو حتى بالبحث عنها في أنواع أخرى كاليوميات والاعترافات مثل دراسته عن “شعرية اليوميات: عند أبي القاسم الشابي“، والتي يمكن اعتبارها هي ودراسة الاستشراق البولوني، واعترافات أنسي الحاج، استثناء عن النوع الشعري الذي يدور في فلكه الكتاب، إلا أن المؤلف ربط بين يوميات الشابي وبين الشعر من خلال بحثه عن “الشعرية” التي هي صفة أصلية في الشعر. وعلى النقيض تمامًا بحث عن اليوميات في الشعري، كما في دراسته اليوميات الشعرية عند محمد الصغير أولاد أحمد، وعادل المعيزي،  فيكسر بذلك المقولات السائدة عن احتكار النثر لليوميات.

والثاني: قضايا الشعر وما تثيره من إشكاليات؛ مثل مفهوم الشعر عند الشعراء، ثم معيار القصيدة ومفهوم اللاقصيدة، وهي قضايا تتعلق من جانب بمسائل شعرية، ومن جانب ثانٍ تتصل بنقد النقد، وهو المنهج الغائب في تراثنا النقدي الحديث، بالإضافة إلى ما استنتجه من اعترافات أنسى الحاج، من قضايا الشعر ورؤيته للوزن والإيقاع وتأثير هذه الأدوات الإجرائية على النظرة الشعرية لقصيدة النثر، بل تكاد تكون الاعترافات بمثابة شهادة ميلاد جديدة لأنسى الحاج، تنفى عنه الكثير من الأغاليط التي شاعت عنه، فهو مثلا يرد بداياته الأولى في الكتابة إلى جذور عربية وليس إلى ثقافة أجنبية كما رُوِّج عنه، وبالمثل حديثه عن الإيقاع الذي لم تخل منه قصيدة واحدة كتبها، فقصيدة النثر لها إيقاع ووزن ولكن ليس بمعيار أوزان الخليل، وإنما هو “وزن شخصي” يتحوّل من قصيدة إلى أخرى، ويستجيب للحالة الشعورية للشاعر، وهي أوزان تستمد طاقاتها من العبارات والحروف، تؤدي إلى إيقاع موسيقي جديد يسميه أنسي الحاج “إيقاع الدورة الدموية”.

الملحوظة الأولى أن ترتيب هذه الأقسام؛ الدراسات التحليلية والمقالات التنظيرية، ثم السجالات النقدية، لا يأتي بمنهجية، بل هو مطروح طرحًا عشوائيًّا داخل الكتاب، والأكثر غرابة أنه يعترف بهذا أي أنه لا يأتي لعدم إدراك، وإنما لسبب غير معلوم! فكما يقول “سارت في نهرها هائمة.. نحو القصيدة والضوء”، ومع الأسف تبرير غير مُقنع بالمرة.

وثانيًا أن ثمة تداخلات بين أنواع عنده مثل اليوميات والاعترافات والكتب النقدية، وهو ما لا يتطابق مع الجزء الأول من عنوان الكتاب الذي يشير إلى القصيدة واللاقصيدة، وإن كان المعنى الفضفاض للتزييل الذي ألحق به العنوان “مقالات في النقد الأدبي” يسمح بهذا التعدد، الغريب أن الطابع الحداثي والمتمرد في الشق الأول من العنوان، نفاه الطابع الكلاسيكي في الشق الثاني.

المغايرة والحداثة

ومع غلبة الشعر وقضاياه إلا أن أهم ما يشغله وهو يستقرئ هذه النصوص الشعرية، هو طابع المغايرة وانتهاجها تقنيات حداثيّة تحلّق بها في أفق اللاقصيدة الذي ينتهجه، ويبحث كذلك عن الطابع السّردي المتمثّل في”الشكل والبنية وتشكيلات المحتوي السردي” والحوارية وتعدّد الأصوات على نحو ما يبحث عند قصائد “مثل من فوّت موعدًا” لفتحي النصري، والعكس تمامًا في النثر يبحث عن الشعرية كما في يوميات الشابي. وأحيانًا في مقاربته لأعمال بعض الشعراء، يميل إلى التعميم، بأن يقدم مقاربة كلية من خلال ديوان واحد، فمثلاً يقول “عالم فتحي النصري من طينة خاصة جدا، فيه أبواب لا تنتهي وشوارعه تؤدي إلى ألف طريق ونوافذه تطل على كل مكان…”، وإزاء هذا الانحياز نراه يقدم نصيحة في قالب تهديد لقارئ الشاعر”إذا لم تكن متعودًا على سحر المتاهة وغياب المطلق، فعالم فتحي النصري ليس عالمك“، في تماس واستحضار غير مباشر لسلطة النقد الموجّه أو المؤدلج للنص في بعض منه، حيث فرض وجهة نظر الناقد الخاصة، ومحاولة تعميمها على القراء، ومَن لا يشاركه الرؤية فهو غير مؤهل لقراءة النص، وهو ما رفضته النظرية الأدبية الحديثة، إذ أكدت على سلطة القارئ وديمقراطيته في القراءة وإنتاج الدلالات.

كما يميل أحيانًا للشكل الشعري وما يستلزمه من تقنيات على حساب المضمون، ففي دراسته عن نوري الجرّاح، يعتبر أن نصه يتميز ببناء معمار للقصيدة بغرض إخفاء معانيها، وهو ما يستوجب قراءة تأويلية تفكك المعاني المضمرة داخل النص الجرّاحي، لذا يعتمد آليتيْن في القراءة الأولى: استكشاف الحداثة /آليات الكتابة، بما أن شعر الجراح يتميز بتنوع العمارات الإيقاعية الزاخرة بتكوينات تشكيلية تعدديّة، فالنص قائم على الإضمار؛ إضمار المنادي تارة، وتارة إضمار/إخفاء الأماكن والاستعاضة عنها برموز، وقد يكون الإضمار عبر الشكل الكتابي، حيث مساحة الفراغ التي تدفع بالقارئ ليكون شريكًا في التأويل وإنتاج الدلالة، وهو ما يستدعي الآلية الثانية المتمثلة في أفق التأويل، فالتشكيلات التي يعتمدها الكاتب جعلت من النص معطى منفتحًا لمعاني متعدَّدة، ويصبح القارئ بمثابة ذات قارئة تعلن عن حضورها داخل النص، وفي الوقت ذاته مكملة للذات الشاعرة، في إعادة بناء الخطاب الشعري.

كتابة الضوء

تدخل الدراسة الأولى في الكتاب في إطار السجالات الفكرية التي طرحتها مجلة “الجديد” اللندنية) وصارت فعلاً متكررًا وملازمًا في الكثير من أعدادها، وهي إحدى المحطات المهمة التي غابت عن حياتنا الثقافية، بما كانت تثيره من قضايا (فكرية وأدبية وعلمية) وما يقابله من حجاج خلّاق أثرى الحياة الفكرية بمطارحات كبار الأدباء والكتاب والمثقفين من جيل الروّاد أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد، وإسماعيل أدهم ومحمد فريد وجدي وأحمد زكي أبوشادي وغيرهم من أساطين الفكر، ومع غيابه أصيبت حياتنا الثقافية والعقلية بالجمود والتكلّس، فالدراسة كانت تعقيبًا على الموضوع الذي طرحته المجلة عن علاقة الشعراء بالكتابة الشعرية ومفهومهم للشعر! تكمن مهمة الناقد هنا حول قراءة آراء الشعراء في القضايا المثارة في تساؤلات، وقد جاءت في العدد 75 أبريل / نيسان 2021 بعنوان “هكذا تكلّم الشعراء“، فالناقد يتخذ من أطروحات الشعراء، الذين اعتبروا الكتابة الشعرية “صنو الحياة” مهادًا لينطلق لنقيضها، أو ما يدعوه بكتابة الضوء التي تتأسس أولاً على رؤية مغايرة/سلبية للشعرية القديمة، بمعنى آخر رؤية تقوم بهدم الأفكار والتصوّرات القديمة، فيبدأ بنفي العلاقة الطرديّة بين كثرة الشعراء وتطوُّر الشعرية، فعنده لا علاقة بينهما أساسًا، وفي تعميم – غاضب – يقول “من النّادر أن تجد عملاً فنيّا لشاعر يمكن أن نسمّيه دون تحفّظ، قصيدة، وينطبق هذا الكلام، أيضا على “شعراء الصّف الأول” من أصحاب الأسماء المعروفة في الساحة الثقافية العربية، ويبتعد هذا الكلام عن المنهجية والعلمية، في ضوء غياب الشواهد من تجارب الشعراء، التي تدلل على ما يؤكد اتهامه.

وعلى الرغم من أنه ينفى أن يكون ثمة معيار لتقويم القصيدة/الشعر، إلا أنه يضع معيارًا يحتكم به لينفي صفة القصيدة عند الشعراء بمن فيهم شعراء الصف الأول، في مقابل حضور اللاقصيدة بمعناها الإيجابي المرادف للتثوير والمغايرة، والمعيار عنده هو الدهشة ووهج الضوء الذي هو “نتاج حالة شعرية أنيّة غير ثابتة، متوهّجة بالضوء الذي أنقذ صاحبها، في لحظة ما، من براثن الظّلام”. ومع الأسف حسب رؤيته فهذه العملية الشاقة غير متاحة لكل الشعراء. وبناء على معياره يعيب على شعراء الملف “أنت والشعراء” غياب حضور القارئ عندهم، واعتباره قيمة مُهملة، كما أن تطور الشاعر عندهم مرهون بالقارئ ونظرته إليه، لا نتيجة لتأثيرات النقاد والشعراء الخبراء، لذا يتوجه بالنصيحة! قائلاً “على الشاعر وهو ينتج قصيدته أن يترك مجالا لقارئه لينهي الفعل الإبداعي ويجعله شريكا في محنة الكتابة عبر تأويل الصور الشعرية التي تنزع نحو المدهش والغريب”، ومن ثم فشعرية القصيدة لا تبلغ منتهاها إلا “بتأويل القارئ وفك رموزها وإكمال المحذوف فيها“.

وعلى النقيض يشيد بعلاقة الشعراء بالنقاد في تطوير وإثراء تجربتهم، لما تعكسه من قيمة “الشّاعر الخبير في مقابل الشّاعر النّبي“، وفي نفس الوقت “تدلّ على أنّ الشّاعر الحداثي في حاجة إلى روافد معرفيّة حتّى تتطوّر تجربته، فهو حرفيّ والنّاقد دليله لحذق حرفته وتطويرها نحو الكمال“.

وتنتهي مقاربته بإقامة تصوّر مغاير للشعر عن ذلك الذي مرره الشعراء له، ينفي من خلاله القصيدة، فعنده بحكم التراكم التاريخي والمعرفي الكبير الذي حصل للشّعر، رافقه تحول مهم على مسار التشكيل، بدأ بالتحوّل من ثقافة المشافهة إلى ثقافة الكتابة، ثم من القصيدة إلى اللّاقصيدة. فانتقال القصيدة من المشافهة والإلقاء التي راهنت على مستويات اللغة والصورة والإيقاع،  إلى الكتابة والتدوين خلق آليات جديدة تعتمد عليه أكثر من تلك التي راهنت عليها في مرحلة المشافهة وما تبعها من الإلقاء، فمع إمكانيات الكتابة يتحرّر الشّاعر من معياريّة القصيدة ويتحرّر معه القارئ. فالتّفاعل الجسديّ الذي كان يمثّل جوهر الإلقاء الشّعري، بما يصاحبه من حركات اليد وملامح الوجه وتموّجات الجسد، وهو ما ستعوّضه الكتابة، بآليات البياض والحذف وتوزيع الحروف والكلمات والأشكال والمقاطع. وبذلك يفتح لشعرية الحواس أبوابًا لتلقّي الشعر دون الاكتفاء بأن يكون حبيس الأذن، وأيضًا ستفتح أفق الشّاعر والقارئ نحو المطلق وتترك لهما وللقصيدة أبوابا كبيرة ونوافذ كثيرة لدخول الضوء إلى جسد الشّعر.

شعرية اليوميات وخلخلة الثوابت

في مقاربته عن أبي القاسم الشابي يخبرنا أن الشابي لا يكتب أدبًا فحسب، بل ما يكتب “هو فلسفة وجود وأسلوب حياة” وبناء على هذه المسلّمة التي تعدّ عتبة أساسيّة في قراءة الشابي، فيعمد لقراءة مغايرة لا يحضر فيها الشابي بصفته كشاعر، وإن كانت تحضر خصائصه الشعرية التي يمرّرها داخل النص عبر الأدوات والأساليب، كما لا يتوقف عند اليوميات كجنس نثري، تتداعى فيه الذات عبر التراكمات والانسيال الزمني، وإنما يتوقف عند تقاطع الشعري مع اليوميات، مستجليا المعجم الشعري الذي تناثر في اليوميات كطغيان معجم الطبيعة والألم والحزن، إضافة إلى اطّراد الصورة الشعرية  التي تعتمد على المجاز والتشبيه، ونهلها من عوالم الشابي الشعرية الأثيرة، مجسدة لعلاقة الذات بالطبيعة، عبر انعكاس حركة الذات النفسيّة على صور الطبيعة (كغيوم الربيع/وكأنسام الصباح/وكأمواج البحار) وما تكشفه هذه الصور من تقلبُّات نفسيته المزاجيّة بين الهدوء والقلق بالطبيعة.

ويرى الناقد أيمن باي أن أهم ما يلصق يوميات الشابي بالشعرية هو إيقاعها، وهو ما يتطلب منه أن يعمل “إزميل الأركيولوجي الصبور المتأني ينزل من طبقة علوية في النص إلى طبقة أسفل منها وصولاً إلى أغواره، وبنياته الأولى الأساسية“، على نحو ما يستعير من قول محمد آيت ميهوب، ومن ثم يسعى إلى الوقوف على العناصر التي تتفاعل فيما بينها لتكوّن النسيج الجمالي الذي يحقّق إيقاع النص ونغمه الخاص، الذي يجعل من نص اليوميات نصًّا نثريًّا (حسب انتمائه الأجناسي) وشعريًّا (حسب تحقق العناصر الشعرية) في آن معًا. وهو ما يكشف عن خصيصة أخرى في نثر الشابي تتمثّل في عمق الصلة بين الأسلوب والدلالة، وهو ما يكشف عنه عبر إيقاع الحروف، وإيقاع التراكيب، أي يبحث عنه عبر المفرد والجمع، ففي إيقاع الحروف يتوالى حرف السين، بما يثيره من شجن، وسكون ووحدة، في مقابل تركيزه أحيانًا على حرف القاف، وما يكشفه مخرج الحرف من عمق، يكشف حالة الضيق والقلق التي يعاني منهما الشابي، وفي إيقاع التراكيب يعمد إلى أن تكون أبنية الجملة متوازية. وهو ما يقرب التحليل من الدرس الأسلوبي.

ومن منطلق عدم التسليم بالمسلّمات، يبحث عن الريادة الحقيقيّة للحداثة الشعرية، فيخالف الآراء السائدة التي تذهب إلى السياب أو نازك الملائكة، مرجعًا أصلها وريادتها إلى السريالي “أورخان ميسر” وديوانه سريال 1948 فمع أن الريادة التاريخية تذهب إلى سابقيه، إلا أنه يعوّل على المغامرة والجرأة، ويرى أنهما عند ميسر كانتا أكثر وأعمق، فالتجربة – في مجملها – أكثر تمردًا على القصيدة العربية التقليدية بـأن تخلت عن العروض كليًّا وعوّلت على معاويل إيقاعيّة جديدة، فقد أتت بلاغة حديثة في تكوين الصورة الشعرية ، فالحداثة عنده تقوم في بنائها على الهدم على أنقاض القديم، وليس التحديث في صلب الموروث. وتأكيدًا لهذه الريادة يسرد الكثير من سمات الكتابة عند أورخان التي بوّأته الصدارة في التحديث: ومنها أن الكتابة قائمة على الآلية التلقائية التي يعوزها تدخل أيّ رقيب ذوقي، أو أخلاقي فيها، فهي كتابة حرة لا تخضع لأيّ منطق سوى منطق اللاوعي. وهيمنة الإدهاش والغريب، وهي عنده بلاغة شعرية مغايرة كأن يجعل من الغبار كائنًا متحركًا عنيفًا، تتسم المقاربات بحسّ نقدي بالغ الرهافة والانصات إلى النص وخطاباته وأنساقه المضمرة، ودلالاته المتعدّدة واللامتناهية التي تفتح أفق التأويل على مصراعيه، وكذلك بالتحليق خارج إطار الإكليشيهات الثابتة، والنمطي والمألوف، فيعمد في مقارباته إلى خلخلة المفاهيم النقدية، وعدم النزوع إلى السائد والرائج، فلا يتقبّل الصيغ المفروضة من قبل دون أن يهاب الحصانة التي تقترن بأسماء قائليها، وهو ما يكشف عن شجاعة وقدرة على المعارضة، وإطلاق الأحكام الجريئة دون حذر من غضبة الكبار أو ثورتهم ضده، وهذه إحدى صفات الناقد المستقل والمتحرّر من وصايا أبوية، فيقرأ الشعر في اليوميات، ونقيضه اليوميات في الشعر، على الرغم من تأكيدات النقاد من قبيل فيليب لوجون وجورج ماي وآخرين على نثرية كتابة الذات وإيمانًا منه بأن الأدب ذاته لا يقبل الثوابت، وتمرد الكتاب أنفسهم يزيح أحادية النثر، على نحو ما وجد في تجربتي  الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد “حالات طريق“، والشاعر عادل المعيزي “أما أنا فلأي فردوس “باحثًا فيهما عن اليوميات.

في المجمل، يتحلّى الناقد – إضافة إلى ما سبق – بروح المغامرة الخلّاقة في اشتقاق مصطلحاته الخاصّة على نحو “اللاقصيدة، والوهج والدهشة” في إثارة لعوالم الكتابة الجديدة، وبما تخلقه من تشكيلات مغايرة لعوالم الكتابة السّابقة، وهو ما يتبعه بتمثيلات لكتابة الضوء من مقتطفات لأعمال محمد بنيس ونوري الجرّاح وقاسم حداد، لكن أخطر ما أستلمحه من ممارسته النقدية، هو سريان نبرة من التعالي، التي تبدو لي مناقضة للثقة المطلوبة والتي أثمنها في كثير من المواضيع التي ترددت فيها، وهذه النبرة – مع الأسف – قادته – بلا شعور – إلى اعتلاء منصة شيوخ النقاد بإصدار النصائح والتوجيهات، التي قد تصل إلى تهديد القارئ (بألا يقرأ النص لأنه “ليس من عالمك” على حسب قوله) وأحيانًا السخرية كما في قوله “أين ناقد المستقبل؟”.

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى