البحث عن حلب وشقيقاتها

البحث عن حلب غير مجدٍ. ليس وقته الآن. ليلها قانٍ وطويل. بعضها لم يعد معروفاً. كثيرها صار على قارعة المجهول. أُخرِجَت من تاريخها البهي، الساحر والزاخر. انتزعت من شعبها الذي نسج لها وجهاً عريقاً وجسداً بقامة حضارة. ها هي متروكة ووحيدة، يتناوب عليها الدمار، يبدِّل من هويتها، يمسخ تفاصيلها ويلغي حكاياتها ويمنع الرؤية. حاراتها في حيرة من حجارة تتناثر وتجثو على فنائها. ناسها الذين راحوا، قد راحوا كأنهم ارتحلوا، ناسها الباقون يشبهون صمتاً يسود بعد دوي القتل وعويل الخائفين. تلك التي كانت روح التاريخ، باتت بلا روح. ما أفدح عذاباتها! ما أعظم خسائرها!

ولكن الحربَ ستنتهي ذات يوم. لن تتعرّف حلب على المدينة. الحرب تقلب المدن. تمزق نسيجها المعماري. تعيد توزيع الديموغرافيا بآلية الخوف المتبادل. لن تشبه حلب نفسها عندما تتنازل الحرب عن القتل… الوحوش التي قتلتها، ستخلق مدينة تستغيث، فيأتيها وحش الحداثة. يمنع عودة الروح إليها… تلك هي قصة المدن التي اغتالتها الحروب، وتناوبت عليها نوبات التدمير والتهجير.

حدث ذلك من قبل: بيروت هذه لا تشبه بيروت بصفتها «ست الدنيا» ومطبعة العرب وصحافة العرب ومنبر الشعر وموطن التجديد والإبداع وحاضنة القضايا القومية. بيروت هذه لا تشبه ناسها الذين حضنتهم وعرفتهم وعرفوها. لقد هزمت الحروب اللبنانية العاصمة كلها. حذفت إطلالتها البحرية. شواطئ البحر من إسمنت. ساحة البرج، ملتقى اللبنانيين. باتت من حجر وزجاج وبلاط. لا روح فيها. كأنها «بين الدخول فحومل». تستحق «قفا نبك» تذكراً لما كانت عليه. مدينة هجينة، كلما اتسعت شوارعها ضاق هواؤها واكتظت. كأنها موقف كبير للآليات. لقد اختنقت. الناس بألوانهم وأفكارهم كانوا منتشرين في مطارحها. اليوم، لكل لبناني فيها معتقل طائفي ومذهبي يرتع فيه سجيناً. الضواحي مدنٌ مشوّهة من عشوائيات متناقضة، يتساكن فيها البؤس والفحش.

هذه بيروت، أخذتها الحرب إلى تشكل جديد. وسط تجاري فارغ وفارع الفخامة. ناسنا لا يشبهونه. لا روح فيه. كأنّه ليس لبنانياً، بالتأكيد، ليس بيروتياً. تقريباً، لم يعُد شيء كما كان لا البشر ولا الحجر… هذه هي سنّة الحروب. اغتيال المدن ضريبة الصراع. بيروت الآن تشبه مدينة محتلة، تحريرها من غربتها وخضوعها، ليس على قائمة اهتمام اللبنانيين، فهم جميعاً في الأسر، وأهلها المزمنون، أباً عن جد، يتناقصون، وكالعصافير المطرودة عن أغصانها، يرحلون في هجرة، تشبه فقدان الأم.

القدس لا تشبه فلسطين. الحرب مرّت عليها وهي مقيمة فيها. لم يبق منها غير المقدسات المهددة والصلوات الخافتة والخائفة. منقسمة باتت بعدما توحّدت بالنار، وجُيِّرت عاصمة لـ«إسرائيل». هي مدينة بشعبين: شعب طارئ كثير، وشعب أصيل يتضاءل. الذين يزورونها من أهلها، عبر عواصم العالم الغربي، لا يتعرّفون إلى بيوتها وشوارعها… يمسحون عيونهم بدمعة تحمل عتمة الفقدان. المقيمون في القدس يعيشون سجناً في الهواء الطلق. كل الممنوعات للتنفيذ: ممنوع السير شمالاً ثم جنوباً. القدس الغربية ممنوعة. الصلاة محظورة إلا برقابة مسلّحة. الأقصى نموذجاً. المستوطنات تخنق ما تبقى من القدس… الغربية منها، تشبه بني صهيون. الشرقية لا تشبه الفلسطينيين، باستثناء عناد مصر على البقاء بثمن الصبر والصهر والتحدي… هذه هي سنة الحروب. اغتيال المدن ضريبة الاحتلال. ما تبقى من القدس لا يشبه القدس. وحده، تاريخها يشبهها، الحجر هناك، له لون البشر، يوم كانوا فيها أحياء يُرزَقون.

«عندما زارت غولدا مائير حيفا، وجدت من الصعب عليها أن تكبت إحساساً بالرعب عندما دخلت البيوت، حيث كان الطعام المطبوخ ما زال على الطاولات، والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض، وحيث بدا الأمر كأن الحياة تجمّدت في لحظة واحدة (…) ذكّرتها المناظر التي شاهدتها ذلك اليوم بأسوأ القصص التي سمعتها من عائلتها عن الوحشية الروسية ضد اليهود قبل عقود (…) لكن ذلك لم يؤثر في عزمها على المضي قدماً في التطهير العرقي لفلسطين» (إيلان بابه).

حدث ذلك في أكثر من مدينة وقرية. مئات القرى دفنت. عشرات المدن اعتقلت. حيفا الباقية شحيحة جداً. كذلك يافا التي لا تشبه برّها وبحرها، ما تبقى منها قليل عزيز. أكلتها «تل أبيب»، هذه، ترفل بالحداثة والجديد. تلك، يافا، تلبس تاريخها بثياب مهلهلة، الحرب أخذت منها روحها. تركتها لقمة لمستوطني «تل أبيب» أو «تل الربيع» من قبل، من المفارقات ما يلي: ذات يوم طلب أستاذ التاريخ من طلابه في الجامعة ان يطلوا على المدينة من شرفات الجامعة ليقرأوها بعيونهم، لم يكن الأمر متوقعاً. لاحظ الأستاذ أن الطلاب الفلسطينيين اختاروا زاوية رؤية تظهر فيها يافا القديمة. الطلاب اليهود، كانوا يمتّعون النظر بأبنية «تل أبيب» الحديثة… الحرب مرت من هناك. المدينة القديمة تيبس، ويافا لا تشبه تل أبيب.

بانتظار أن تفرغ الحرب من سوريا، وان تنحسر في العراق وتتضاءل في ليبيا نتساءل، عن مدن ممسوخة ومشوّهة، يرثها العرب ويرثون لحالها. فماذا تبقى من تدمر؟ جرت محاولة طمأنة طفيفة. بعض أعمدتها يعوّض عن دمار الهيكل، وماذا سيبقى من الموصل، «داعش» استأصل حضارات وشعوباً.

ما كنا نعرفه عنه سيذهب هباءً. وما سنعرفه عن المدن في ما بعد، سيكون اغتراباً. الحرب خسارة والسلم بعدها فادح. التحضيرات لإعادة إعمار سوريا، بعد خرابها، على قدم وساق. ما نجا من المدفع، لن ينجو من التعامل معه كسلعة عقارية… بيروت كانت السبّاقة في خسارة روحها سلماً.

ماذا بعد؟

الظن يتّجه إلى توقّع الأسوأ.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى