البريد ذكرى في يومه العالمي: على عتبة القرن الماضي (عماد الدين رائف)

 

عماد الدين رائف

في بيروت لا توزع الرسائل البريدية على المنازل، والذي ينتظر رسالة يأتي بنفسه إلى مبنى البريد قرب المرفأ». هكذا يصف أغاتانغيل كريمسكي معاناته مع البريد، في رسالة إلى أبيه، حملت تاريخ الأول من تشرين الثاني 1896. «ينقسم المبنى إلى مراكز يختص كل منها بالبريد الوارد من بلد أجنبي معين. هناك مركز للبريد الوارد من النمسا وآخر من فرنسا أو روسيا أو انكلترة، ولا بد من السؤال في كل مركز منها». أما عن عنوان المرسل إليه، فيحذر أباه من الخطأ في إرسال المبالغ النقدية، ويقول: «في رسائلكم العادية استعملوا العنوان التالي: فيينا ــ وعبر فيينا إلى سوريا، ثم بيروت القنصلية الروسية…».
ويفصل كريمسكي في رسائله لأجور البريد، التي ما لبثت أن تغيرت في تشرين الأول 1907، وذلك بعد التزام السلطنة العثمانية بقرارات مؤتمر البريد الدولي. وفق كاتب «يوميات لبناني في أيام المتصرفية»، الذي عني به سليم هشي. فقد غدت تعرفة الرسالة زنة 10 غرامات قرشاً واحداً، بعدما كان القرش يكفي لإرسال رسالة تزن 15 غراماً. أما تعرفة البطاقة البريدية فبقيت على حالها «عشرون بارة، فإن أراد صاحبها أن تكون أجرة الجواب مدفوعة فقرش واحد». (القرش الواحد كان يعادل 40 بارة أو مصرية، وفق السيد محسن الأمين في «خططه»).
ثم يضل كريمسكي، الذي كان يقطن في الرميل، طريقه إلى البريد، بعد نحو عشرين يوماً على وصوله، يضيف: «ذهبت إلى البريد التركي، فلم أهتد إلى المدخل الواجب علي سلوكه. سألت أحد الأشخاص فدلني عليه وتبعني يصعد السلالم خلفي. كررت الكلام أمامه أني لست بحاجة لمن يرافقني لكنه ظل سائراً ورائي بعناد، ثم وقف ينتظر حتى سلمت موظف البريد الرسالة المضمونة، وعندما خرجت بدأ يطالبني بالبقشيش». ويضل كذلك طريقه منه، يقول في 28 تشرين الثاني: أثناء عودتي من البريد سلكت طريقاً أخرى. فوجئت بأن وجدت نفسي على تلة خارج المدينة».
وإن كانت تلك حال كريمسكي في بيروت، فقد كانت أكثر سوءاً في الشوير، يقول في 22 تشرين الأول 1897: «لا أثق بالبريد الشرقي أبداً. يستغرق نقل البريد بين الشوير وبيروت ثلاثة أيام بكاملها. ويمضي ساعي البريد ليلة في بيته، وأخرى عند أقاربه، وأحياناً يرسل البريد مع أحد المكارية، لذلك فضياع الرسائل أمر مألوف للغاية». وفي أواخر أيام إقامته في بيروت، يتخوف على مصير كتبه لأن «القانون العثماني يلزم بفتح طرود الكتب الصادرة والواردة لقبض الرسوم الجمركية عنها. وإذا تبين أنها مخطوطات شرقية قديمة تصادر فوراً».
وتعتبر رسائل كريمسكي إلى ذويه، أواخر القرن التاسع عشر، وثائق اجتماعية فريدة في تناول تفاصيل الحياة اليومية لأهالي بيروت وبعض نواحي متصرفية جبل لبنان، وإن كانت لا تمثل قيمة أدبية. وقد جمعت الرسائل في كتاب عنوانه «رسائل من لبنان»، قدمت له الباحثة السوفياتية إيرينا سميليانسكايا في العام 1975. ويبدو أنها ارتأت أن يبدأ الكتاب من الرسالة الحادية عشرة. وقد نقله إلى العربية يوسف عطا الله، وراجع النص وضبط حواشيه مسعود ضاهر. وحمل الكتاب اسم «بيروت وجبل لبنان على مشارف القرن العشرين»، ولم تدرج في الكتاب الرسالة الحادية عشرة، بالإضافة إلى أن ضاهر تصرف في النصوص. أما الرسائل بصيغتها الأصلية فلم تصل إلى العربية، على الرغم من أنها طبعت في كييف بالروسية مع حواش بالأوكرانية، في العام 1973، تحت عنوانها الأصلي «رسائل من سوريا».

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى