البساطي الذي لا يعرفه أحد (خالد عاشور)
خالد عاشور
بدايات التعارف والدخول في عالم البساطي.
بدأت معرفتي بمحمد البساطي مع رواية الخالدية. كانت الفكرة قد بدأت تولد بعقله للكتابة برغم مرور سنوات طويلة على الحدث الذي استقى منه الرواية، ربما مرجع الفكرة أن البساطي مرّ بأحداث الرواية فعلياً أثناء عمله بالجهاز المركزي للمحاسبات وكان وقتها موظفاً صغيراً بمحافظة سوهاج محل ميلادي وأجواء الرواية التي كتب عنها البساطي خالديته، لذا كان يتصل بي تقريباً يومياً يسألني عن سوهاج وشوارعها وعادات أهلها وهل تغيرت بعد كل هذه السنين التي تركها فيها البساطي بعد انتقاله الى القاهرة، يتصل بي أثناء الكتابة يسأل عن أدق الأشياء وعن أسماء الشوارع وعن كوبري اخميم الذي كان محوراً هاماً في الرواية فهو الفاصل بين البر الشرقي والغربي أو بين حي الأغنياء وحي الفقراء كما هو فعلا يفصل كوبري أخميم حي شرق الأغنى عن حي غرب الأفقر وقتئذ حين كان البساطي يعيش في سوهاج ـ غير أن الحال تغير الآن واختلط الحابل بالنابل ـ وظلت سوهاج القديمة في ذاكرة البساطي وهو يكتب روايته البديعة الخالدية.
وأصل الرواية حدث حقيقي حدث مع البساطي… موظف بسيط بمديرية أمن سوهاج يعمل كمراجع حسابات (يونس بطل الرواية عند البساطي) صنع مدينة وهمية تماما، مدينة مخترعة، مدينة على «ماكيت» أقامه مراجع حسابات بالمحافظة (مديرية الأمن). وبدأ من مركز شرطة وهمي بمأمور ومعاون مباحث ونقيب وملازم أول وثاني ورقباء وعرفاء وصولات وجنود أمن مركزي وسيارات وخيل وكل شيء… يشيد الموظف عالما خياليا على «ماكيت» وعلى الورق ليفضي كل شيء إلى كشف رواتب لمركز شرطة الخالدية الوهمي بخمسة وعشرين ألف ومئتين وأربعة وثلاثين جنيها، يضعها شهريا في حساباته بأربعة بنوك.
يصنع الموظف ماكيتاً كي يسهل على نفسه مهمة ابتكار أحداث يترتب عليها كشوفاً وهمية جديدة للمكآفات والجزاءات، المطلوب أن يتحول مركز الشرطة إلى كيان «حقيقي على الورق»، كيان لا يثير شكوك أحد. لكن التطور الروائي يبلغ ذروته – منذ البداية – بتحول الخالدية إلى كيان حقيقي في مخيلة الموظف، وهم مسيطر، كابوس فادح ينتهي بموته مختنقا به.
ربما توقع البساطي قبل سنوات بحسّه المرهف قيام الثورة لتلك الفجوة التي توجد في اغلب عموم مصر… حي بولاق والمهندسين والفاصل بينهما شارع… حي كامب شيزار والحضرة في الأسكندرية والفاصل بينهما شارع ابو قير… ومدينة الخالدية للبساطي والكوبري الفاصل بين حي الأغنياء وحي الفقراء.
تلك الجمل الموجزة التي تلخص جلّ الرواية في كلمات دالة عن كينونة الصراع البشري المستمر حتى الآن: «احذر البرّ القديم. دعه نائما. لا تجعله يخدعك. ينامون الليل ولا شيء في بالهم وفي الصباح يتغير الأمر».
«البرّ القديم. لا تستهن به. البرّ القديم، يسبب لهم في العاصمة قلقا لم أفهمه. الآن أحس قلقهم. مغلق على نفسه. كتوم. لا يفصح ولو قليلا… مؤهل في كل لحظة للانفجار… أول ما سيفعلونه هو الاندفاع إلى البرّ الجديد. التخريب الأعمى. حكاية قديمة تتكرر من وقت لآخر».
هذه هي الرؤية الأمنية التي يقدمها مأمور مركز الخالدية… التعامل الأمني العقيم مع كل ما يجدّ في حياة مصر دائما يأتي بثمار شيطانية لا تؤكل… ثورة الجياع التي يتخوف منها الجميع وتنبّأ بها مبكراً محمد البساطي.
هذه الرواية حدثت بالفعل. ربما لو كان انساناً عادياً غير البساطي لسردها كأي حادث يمر به في عمله، غير ان الحس الروائي عند البساطي واهتمامه بعوالم المهمّشين جعل الفكرة تظل راسخة لسنين في باله ثم تطفوا فجأة فيكتب منها أجمل وأرقّ رواياته من وجهة نظري والتي أسماها الخالدية ربما كما كان يتندر وهو يضحك معي في مقابلاتنا أنه اسماها الخالدية ربما إهداء غير مباشر لصداقتنا ولشخصي.
محمد البساطي كاتباً للاطفال؟!
هذه المنطقة من حياة البساطي التي لا يعرفها أحد ولم يتكلم عنها قط طيلة حياته الأدبية، تجربة لم يكررها ولم يقم بها غير مرة واحدة وهي الكتابة للاطفال ـ تخيل ـ البساطي كاتباً للاطفال… تلك هي الحقيقة التي ربما لا يعرفها أحد ممن عرفوا البساطي… كانت التجربة الأولى والأخيرة له… كتب قصة قصيرة للاطفال بمجلة العربي الصغير عدد مارس 2002، الملحق مع مجلة العربي الكويتية بعنوان (النخلات الثلاث).
تحكي القصة المكتوبة للاطفال عن حاكم عُرِفَ بالشدة والعدل. في عهده استتب الأمن حتى أن الناس كانت تنام وابواب بيوتها ومتاجرها مفتوحة، ورغم ذلك كانوا يشكون من صرامة القوانين، فالضحك ممنوع بصوت مرتفع والاحتفالات وأشياء أخرى مما أسماه الحاكم بقانون العيب. خضع الناس وسكتوا خوفاً، غير أن الحاكم أصيبت ابنته الوحيدة بمرض عضال غيّر من حياة الحاكم، فنصحه أحد الحكماء بالبحث عن (نخلات ثلاث) بلحها فيه شفاء لبنته التي أعيت كل الاطباء حالتها، يستطرد البساطي في الحكي حتى يتغير الحاكم بشفاء ابنته خلال رحلته في البحث عن النخلات الثلاث الموصوفة لعلاجها. وبعد شفاء بنته يتغير سلوكه وتلغى قوانين العيب ويغير الحاكم طريقته في التعامل مع الشعب.
حتى في قصص الأطفال لم يستطع البساطي الابتعاد عن اسقاط السياسة على عمله الوحيد والمكتوب خصيصاً للاطفال، ولم يبتعد ايضاً عن عالم المهمّشين الذي عني به في كل اعماله القصصية والروائية.
كانت تجربة الكتابة للاطفال هي المرة الأولى والأخيرة للبساطي، التي لم يتحدث عنها في أي حوار وأراد أن ينساها نهائياً، لأنه أحس انه لم يستطع ان يكون كاتباً للاطفال.
بدايات الكتابة وظهور عمل جديد.
يبدو البساطي قبل كتابة أي عمل روائي، مشغولاً متوتراً يقرأ كثيراً ويظل لساعات معتكفاً في حجرته بين كتبه يلهي نفسه بالقراءة، يتصل بي ويسألني عن اشياء مما تدور في باله عن عمله الجديد من دون ان يقول لي إن هناك ثمة فكرة قد خطرت بباله، وأقول له في تفاؤل:
– ها يا عم محمد… فيه حاجة جديدة.
يرد عليَّ بإجابته الدائمة:
– يا مسهّل… ربّك يبعت.
ويتغيب عني لأيام… ويتصل… ويقول لي في كلمات مقتصدة:
– فوت عليَّ بكرة يا خالد… ربّك سهّلها وبعت قصة… تعال خدها علشان تقول رأيك وتكتبها على الكمبيوتر.
وأمرّ عليه… عملي بجامعة الأزهر قريب من بيته في الحي السابع بمدينة نصر… وأمرّ عليه لأخذ القصة.
يسلّمني مظروفاً مغلقاً فيه العمل… قصة قصيرة او رواية… دائما ما كان يكتب على ورق صغير مقاس 15سم X 10 سم أو 11سم X 10.5 سم. لم يغيّر عاداته في الكتابة على هذا الحجم وهو ورق صغير لا ادري كيف يكتب عليه! في زيارة له ذات مرة لبيته دخلت غرفته الخاصة. مجرد سرير يستقرّ أمامه مكتب خشبي صغير ومنضدة صغيرة وضعت عليها بعض الكتب التي كان يقرأ فيها تلك الفترة قبل البدء في الكتابة.
سألته حين دخلت غرفته:
ـ ده المكتب اليّ بتكتب عليه يا عم محمد.
ـ ضحك وقال لي لم أكتب شيء طيلة حياتي على هذا المكتب ولا احب الكتابة أو الجلوس الى المكاتب.
كان يكتب بطريقة غريبة… لوح خشبي صغير مثبت به مشبك… يضع الورق الذي يكتب عليه ويكتب وهو ممدد على السرير على الورق الصغير الذي تعوّد عليه. ثم يشرع في تبييض وتنقيح قصته على ورق فلوسكاب كبير، وهنا يستخدم المكتب فقط. كانت تلك طريقته قبل أن نتعارف… بعد معرفتي به يسلمني العمل مكتوباً على ذات الورق الصغير من دون تنقيح لكتابته على الكمبيوتر وبعدها يبدأ في توزيعه على لجنته السرية التي كنت أحد افرادها، وكانت تضم بعض الأدباء الشبان لثقته في جيل الشباب من امثال محمد شعير وحسن عبد الموجود وبالطبع لصديق عمره المخرج الكبير محمد كامل القليوبي والأديب جمال الغيطاني. وكان مستمعاً جيداً للملاحظات التي ترد من لجنة القراءة السرية التي تقرأ العمل كمخطوطة أولية. لم يكن متكبراً في الاستماع الى النصائح وخاصة في الكتابة.
كان في السنوات الاخيرة من حياته يكتب كثيراً بعد ان وصل الى سن التقاعد من العمل الحكومي بالجهاز المركزي للمحاسبات وبعد ان وصل فيه الى وكيل اول للوزارة… بدأ في الكتابة بصورة منتظمة فكان له في كل عام رواية ومجموعة قصصية… ربما كان يشعر بالموت وخطاه تقترب منه… وكنت سعيداً لنشاطه فقد تعلمت منه كثيراً واستفدت من خبرته وحرفيته في فن الكتابة… لازمته بالبيت فترة مرضه الأخيرة وكنت اكتشف الأنسان الجميل في محمد البساطي الذي لا يعرفه احد… عناده مع المرض وعدم استسلامه له. حين اخبرته بفوزه بجائزة الدولة التقديرية وكان المرض قد اشتد عليه ودخل في بدايات نوم طويل يصحو منه قليلا ليعود تارة اخرى اليه، بينما فيلم غزل البنات الذي كان يحب ان يستمع اليه والى صوت ليلى مراد المحبّب اليه مستمر من دون توقف على السي دي بلير وأنا جالس الى جانبه لمتابعة ساعات اعطائه الدواء، حين اخبرته بفوزه بجائزة الدولة التقديرية ابتسم ابتسامة سخرية وعاد الى السرحان في ملكوته الخاص وقد خاصم طيلة حياته المؤسسة الرسمية للدولة وخاصم جوائزها منذ ان حدثت ازمة الروايات الثلاث التي كان يشغل وقتها المسؤول عن سلسلة إبداعات واستقال بعدها وابتعد كلياً عن الموسسة الثقافية الرسمية في مصر.
كان يستيقظ من نومه وينظر اليَّ ويسألني:
ـ خلصت كتابة الحجات اللي اخدتها يا خالد.
وأقول:
ـ ايوه يا عم محمد متقلقش شغلك امانة في رقبتي.
ترك لي قبل وفاته ثلاثة اعمال (رواية رجال ونساء) ومجموعتان قصصيتان هما (أضواء على الشاطئ) و (جلبابها مشجر). استطعت بمساعدة الأديب الكبير والصديق الأستاذ جمال الغيطاني ود. أحمد مجاهد رئيس هيئة الكتاب أن ننشر جميع اعماله في مجموعة أعمال كاملة تضم الثلاثة اعمال الأخيرة التي تركها لي قبل وفاته بقليل. ليظل البساطي أمير القصة القصيرة وشاعرها. وكاتب المهمّشين الأول والمدافع عن صوت الفقراء والغلابة.