البكتاشية.. انتصرت بها الدولة العثمانية

أدّت البكتاشية مهمة عظيمة للدولة العثمانية، فقد وحّدت أغلب الفرق والطرق الصوفية، وبخاصة ذات الشكل الباطني –عقائديًا- كالقلندرية والحيدرية، وهضمت تعاليم السابقين في طريقتها، ووحدت -إلى حدّ كبير- الفكر الصوفي في تركيا، مما قوّى الكيان العثماني وقتها، ومن خلال دورها السياسي أحرزت الدولة العثمانية انتصارات شتّى شرقًا وغربًا، وأثرت البكتاشية في معسكر الجيش الانكشاري الذي عُدّ -فيما بعد- من أتباع الطريقة البكتاشية، وارتبط بها ارتباطا وثيقًا، وأصبح اسم حاجي بكتاش ولي من أشهر الأسماء في تلك الفترة، ونظر إليه باعتباره أبرز الأولياء وأنجعهم أثرا، وفي السطور التالية سنحاول التعرّف على هذه الشخصية المهمة في تاريخ الدولة العثمانية.

المؤسس

وُلد حاجي بكتاش ولي (646هـ) في خراسان، ويوصف في مصادر الطريقة بالأوصاف كافة التي نقرأ مثيلتها في كتب التراجم والطبقات عند التأريخ لأحد من الأولياء، فهو السّيدُ، والملاذُ، وسلطان الأولياء، وبرهان الأصفياء، والقطب الأعظم، والهيكل النوراني، والسّر السبحاني، وخوارقه وكراماته لا حصر لها، وهو من أبرز الأولياء في عصره، تمحو كراماته كرامات أقرانه ومعاصريه، فهو غالبٌ بأفعاله ولا يدانيه أحدٌ!

وهو من السادات الحسينية، ويُذكر نسبه على الصورة التالية: السيد محمد بكتاش بن إبراهيم الثاني بن موسى، بن إسحاق بن محمد إبراهيم بن حسن إبراهيم بن مهدي بن محمد بن حسن بن إبراهيم المكرّم المجاب، بن سيدنا الإمام موسى الكاظم، بن سيدنا الإمام جعفر الصادق، بن الإمام محمد الباقر، بن الإمام زين العابدين، بن سيدنا ومولانا الإمام أبي عبدالله الحسن، بن مولانا وسيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

اشتهر حاجي بكتاش في طفولته وصباه بأنه الصادق الأمين الخلوق التقيّ الورع. تلقى حاجي بكتاش تعليمه الديني على يد الشيخ لقمان الخراساني، أحد خلفاء قطب الأقطاب الشيخ أحمد يسوي أبرز الأولياء التركستان، وإن كان البعض يشير إلى تلقي حاجي بكتاش معارفه على يد الشيخ أحمد يسوي نفسه، فلا يفهم هذا إلا في إطار صبغ البكتاشية بصبغة توثيقية تدعم وجودها في الأناضول، ونستطيع أن نتفهم -بناء على ذلك- ما نقرؤه في كتب تعاليم البكتاشية من وصايا يسويّة كمثل الأمر المنسوب إلى أحمد يسوي موجّها حاجي بكتاش: “لقد أخذت نصيبك من العمل، أبشر بأنك ستكون قطب الأقطاب، وستحكم أربعين عامًا، وها نحن أولاء في الطريقة إلى الآن، وسيؤول الأمر إليك من بعدنا، ولقد حان ميقات رحيلنا، هيّا امض، وتوجّه إلى بلاد الروم، سأخضع لك أبدال الروم، وأجعلك قائدًا عليهم”.

وإن حاول أحد الباحثين نفي الصّلة بين البكتاشية واليسويّة، اعتمادًا على شيعية الأولى وسُنّية الثانية، فإن ذلك مما لا يصمد أمام مراجعة أدبيات الطريقتين، وبصورة خاصة أدبيات البكتاشية التي حوت في مضامين تعاليمها أفكار اليسوية وغيرها من الطرق الصوفية في الأناضول، كما أنها نظرت نظرة تقدير وإجلال إلى مشايخ الطريقة اليسوية.

أول ما يستدعيه الذهن عند مطالعة سيرة بكتاش ولي المدوّنة بقلم أتباع الطريقة، سيرة النبي محمّد، فطفولة الوليّ كطفولة النّبي، لا فرق بينهما، النبيُّ لم يشارك الصبية في الألعاب واللهو، وكذلك الولي، ولم تمل نفسه قطّ إلى ما مال إليه أترابه، وكذلك الوليّ، ولم يواجه أحدًا بذنبٍ ارتكبه أو هفوة اقترفها، ستّارٌ للعيوب ولا يفشي سرًّا، ولا يسير إلاّ طاهرًا، وحينما تعرض عليه الدنيا يرغب عنها، ويتفرّغ في فترة التكوين للعبادة والذّكر ويعتزل قومه، ويمارس المجاهدات والرياضة الروحية فترة طويلة في صومعته، الوليّ على قدم النبيّ، والوليّ مجدد للميراث السابق، وكما كُتبت سيرة النبي تُكتبُ سيرة الوليّ.

ارتحل حاجي بكتاش عن وطنه بناء على وصية المشايخ الإلهيين، ووصل إلى بدخشان، وعاد إلى وطنه مجددا بعد رحلة جهاد، ليأمره مرشده الروحي أن يهاجر إلى الأناضول، فالهجرة ميلادٌ جديد وبدء لمرحلة أقوى في الدعوة، وسلوك إلى عالم الولاية، هاجر الصوفية من أوطانهم، فعلى امتداد خريطة العالم الإسلامي من الهند والأندلس إلى مكة ومصر وإيران والشام وتركيا، نشهد هجرات المئات والألوف من العلماء، وكان السلاطين السلاجقة يرحبون بقدوم كبار العلماء والمتصوفة من تركستان وإيران.

صوفية ومحاربة!

شارك الصوفية في الجهاد والغزو كغيرهم من الفرق الإسلامية، ومن مآثر حاجي بكتاش أنه مجاهد (حارب الكفّار وجاهد في سبيل الله، دفعًا لإساءة الكفار إلى الإسلام)، ولمّا أتمّ غزواته استحقّ لقب (غازي). الانفتاحُ على الآخرين، وقبول التعددية -كما يرد في المدونة البكتاشية- لا يعنيان عدم الانتصار للذات، وما تعتقده من أفكار، فقبول المذاهب والديانات الأخرى لم يمنع مؤسس البكتاشية من حمل السلاح قربة إلى الله، بل يعد هذا من جملة مناقبه.

في الهجرة حياة جديدة، وتوطيد لدعائم الدعوة، فحينما غادر بكتاش ولي خراسان، يمم وجهه شطر النجف (الأشرف) لزيارة ضريح الإمام عليّ بن أبي طالب، باب مدينة العلم، وأحد أقانيم الثالوث البكتاشي (الله، مُحمّد، عليّ) الذي يُنظر إليه بكثير من التقديس، فهو في الأرض فارس حكيم أمير، وفي السماء مرشد يطلب منه الأولياء البكتاشيون النصح ويرشد المشايخ إلى الحقّ، ويعرّفهم بأنفسهم، ويحققون من خلاله الخلافة لله، بعد زيارة الإمام علي ذهب حاجي بكتاش إلى مكّة لأداء مناسك الحجّ، وزار مقام النبيّ الأكرم في المدينة، ثم زار المسجد الأقصى، ومن النبي الخاتم إلى الأنبياء السابقين يلتمس الإمداد، وكما بدأ الزيارات بعليّ انتهت بزيارة مراقد الأولياء في دمشق وحلب، ليستقر بعدها حاجي بكتاش في الأناضول، وكما توافد عليه الناس وهو في شبابه، توافدوا عليه في موطنه الجديد بسبب كراماته التي لا تنتهي، وأفعاله الطاهرة التي تخلقهم خلقًا جديدًا.

كان حاجي بكتاش قد قدم من خراسان إلى سيواس ثم إلى آماسيا وقيرشهر ومنها إلى قيصريه، ثم استوطن قرية صالوجه قره يوق بقيرشهر، التي طابت له مستقرًا ومقامًا. ونال شرف استضافة الوليّ كبير القرية -آنذاك- الشيخ إدريس وزوجه السيّدة فاطمة، التي ستصبح شخصية بارزة في الطريقة البكتاشية أكثر من زوجها، وبعد أن كانت عقيمًا ستنجب الذكور، بفضل كرامات هذا الولي الوافد، ويمسي الأبناء علامات على الطريقة، وعلى الرغم من أن حاجي بكتاش لم يتزوج، ستنتسب إليه هذه الذّرية أبناء وحفدة، وينظر إليه بكثير من التقدير من أبناء الطريقة.

الغلو بالشيخ

عكست قصة حياة حاجي بكتاش أفكار المجتمع التركي في عصره، وذهنية المريدين الذين يبالغون في شخص شيخهم ويرفعونه مرتبة عليا، فمن يقرأ في المدونة البكتاشية يلاحظ قرب بكتاش من السيد المسيح، لا قربه من جلال الدين الرومي وغيره من الأولياء فحسب، فمعجزات الشفاء وردّ البصر للعميان وإحياء الموتى كما نُسبت إلى صحابة النبي في كتاب الشفا للقاضي عياض، نُسبت إلى حاجي بكتاش في كتب المناقب البكتاشية، وترويض الحيوانات وركوب الأسد الذي نقرأ عنه في سير الأولياء كان من السهل بالنسبة لحاجي بكتاش، ومن الطبيعي إن حظي بمعجزات الأنبياء التي اختصوا بها أن تزداد كراماته كولي على من سبقوه أو عاصروه.

ألّف حاجي بكتاش (مقالاته) باللغة العربية نثرًا، ثم ترجمها شعرًا إلى اللغة التركية خطيب أوغلو عام 1490م، وتُرجمت بعد ذلك نثرًا إلى التركية، ويرى (جبّ) أن كتاب المقالات لا يوضّح لنا -بشكل كبير- مذهب البكتاشية وشعائرهم السرّية، وتشير الأستاذة بديعة إلى تراكمات فكرية وعقائدية وفلسفية نلاحظها عند دراسة المقالات، ففيها من العقائد ما يميّز البكتاشية عن غيرهم من أصحاب الطّرق، وقد التمست من الديانات الأخرى ما شكّل معتقدها فيما بعد، مثال ذلك عقيدتهم الخاصة بالعناصر الأربعة (الماء والهواء والتراب والنار)، وفكرة الإنسان الإلهي، وخلود الرّوح، وما يشبه الثالوث المسيحي.

يقول حاجي بكتاش في كتابه “ولاية نامه”: “يجب عدم التفريق بين الأديان، لأن التفرقة تؤدي إلى الخصومة بين أهلها، في حين أن جميع الأديان تسعى لتحقيق السلام والإخاء بين البشر أجمعين”.

خلاصة من بحث: خالد محمد عبده ‘التصوف في تركيا.. البكتاشية’، ضمن الكتاب 106 (أكتوبر 2015) ‘تركيا والإرهاب والأقليات النَّوعية’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى