البنّا.. رجل تنظيم لا فكر

يحذر الدكتور ثروت الخرباوي قائلاً: «لا شك أن أفكار حسن البنا تحتاج إلى مراجعة ودراسات نقدية». ثم يضيف: «فهي أخطر الأفكار التي مرت على أمتنا منذ بداية القرن العشرين لحد الآن، كما أنها هي التي أوصلتنا إلى الحالة التي نعيش فيها حالياً. وما سيد قطب إلا واحد من الذين أخذوا من حسن البنا وصاغوا فكره بطريقة أدبية. وأسوأ ما نراه الآن هو أن نفراً من الذين ينتقدون الإخوان حالياً ينتقدونهم لأنهم في زعمهم خرجوا عن فكر البنا، ومن ثم يريدون عودة الجماعة لهذا الفكر، وإلى هؤلاء أقول: ومتى تركت الجماعة فكر البنا لتعود إليه ثانية؟».

والذي يثيره الخرباوي في هذه الملاحظة نقد لاذع للكثير من المجاملين ممن يرون ما فعل الإسلام السياسي بمجتمعاتنا ويصرون رغم ذلك على إنقاذ فكر «الإخوان» الذي هو العمود الفقري للتشدد الديني والتزمت الحزبي، مما يعتبره هؤلاء الكتاب اجتهادات لا تنتمي إلى أصل أفكار الحزب.

«لن أكتب عن جرائمهم في حق مصر، ولن أتركها للتاريخ لأن الناس كل الناس يعرفون ماذا فعلوا بمصر قبل سنة حكمهم الكبيسة وبعدها»، يقول الأديب يوسف القعيد، في عدد من مجلة «الهلال» (نوفمبر 2013) مكرس لتجديد الخطاب الديني: «رأت الناس بأم أعينها نهب الوطن والاستيلاء على مقدراته ومحاولة فك مفاصل الدولة وإعادة تركيبها لتتحول من وطن إلى إمارة. وسمع الناس بأم آذانهم الوعد والوعيد منهم، من الكبار ومن الصغار، بأنهم إما أن يحكموا مصر أو أن يدمروها».

أبرز ما يشير إليه الأديب المصري في مقاله هذا إجهاز مشروع «الإخوان» على كل أفكار التحديث التي ظهرت في العالم العربي، وإحلال بدائل دينية متشددة ودعوات استبدادية ديكتاتورية باسم مصلحة الأمة والشورى وغير ذلك. فالجماعة عندما تأسست، يقول القعيد، «أجهضت محاولة كبرى بدأت نحو منتصف القرن التاسع عشر للإصلاح الإسلامي». فالبنا، «مؤسس الإخوان المسلمين، كما يتبدى من مذكراته ومقالاته وخطبه»، يلاحظ القعيد بدقة، «رجل تنظيم بالدرجة الأولى، ولم يكن رجل فكر على الإطلاق. ومن تبعه ممن تولوا الإرشاد كانوا أهل دنيا أكثر من كونهم أهل دين. وكانت لهم مناصب أخرى يعملون بها. ولم يتفرغوا أبداً لفكرة الإسلام. حتى آخر شعاراتهم في العهد السابق (الإسلام هو الحل) انصرف مَنْ طرحوا ذلك الشعار إلى الحياة اليومية والمشاكل المعاشة، ولم يقتربوا أبداً من منطقة الفكر، حتى من طرحتهم الجماعة من المشتغلين بالفكر، ولعلّ أشهرهم سيد قطب، الذي سافر إلى أميركا في أواخر أربعينيات القرن الماضي بصفته يشكل مشروعاً لناقد أدبي لا بأس به. لكنه بعد العودة من أميركا في أوائل خمسينيات القرن الماضي، عاد إلينا وقد أخذ من الإسلام كل ما هو متطرف. ومن يقرأ كتابه (معالم على الطريق)، يكتشف أن الرجل وضع اللبنة الأولى لتكفير المجتمع كله. لذلك فهو يعد صاحب الجذور الأولى لكل المتطرفين الذين جاؤوا من بعده».

لكن من كان أشد تطرفاً، البنا أم قطب، أم أن لكل واحد منهم «مدرسة خاصة» في هذا المجال؟

لم يكن البنا مفكراً وقارئاً في الثقافات والأيديولوجيات، مثل قطب، بل كان -كما يبين «القعيد»- منظماً حزبياً حركياً يحاول توظيف كل خبرته السياسية والاجتماعية في دفع الحركة الإسلامية نحو اتجاه جديد، يجعلها أكثر تأثيراً في الأوضاع وأقدر على تحطيم كل ما كان يعتبره ضد الإسلام!

كان البنا الأسبق في إقرار العنف أداة في العمل السياسي، وإن كان ضد اللجوء إليه قبل أن يأتي أوان الاستفادة منه. فكان العنف لديه بمثابة هراوة مخفية ينصح دائماً بعدم استخدامها ضد الخصوم إلا بعد «فترة من الجهاد السياسي»، والتغلغل في مفاصل المجتمع.

الجمل الشهيرة للبنا، الواردة في «رسالة المؤتمر الخامس»، والتي تدل دلالة قاطعة على أن جماعة «الإخوان» لم تكن على الإطلاق حركة سياسية سلمية، إلا عن اضطرار وبانتظار سوانح الفرص، تقول: «ويتساءل كثير من الناس، هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم؟ وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو النظام الاجتماعي في مصر؟». ويجيب تقرير البنا عن السؤالين: «أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ). والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف)، بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء».

ويختم البنا بالقول: «إن الإخوان سيستخدمون القوّة العملية، حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها».

وإذا كان البنا قد احتفظ باستخدام العنف بعيداً عن رؤية الجمهور، فإن قطب بقلمه الحاد ورؤيته العقائدية التي لا تعرف إلا الأسود والأبيض، والإسلام والجاهلية، اختطف هراوة البنا، وسلّمها إلى جيل كامل من الجهاديين.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى