البوطي والاصطدام بالسَّلفية: المذهبية بدعة!(عبد الصمد بلحاج)
عبد الصمد بلحاج*
اختيار البوطي نموذجاً لاستكشاف العلاقة بين الصوفية والإخوان في سورية يوجبه عاملان. أولهما تأثر البوطي بمدرسة الإخوان، وتكونه الفكري، وبالتصوف الذي انتمى إليه روحياً. وثانيهما أنه الشخصية الإسلامية السورية الأبرز، إذ إنه احتل الرتبة السابعة عشرة من الخمسمائة شخصية إسلامية الأكثر تأثيراً في العالم العام 2010؛ فاجتمعت فيه علامتا التأثر والتأثير في أكثر صورهما وضوحاً.
أما بالنسبة إلى التأثر، فربما كانت أصوله الكردية وهجرته مع عائلته من تركيا متنقلاً إلى دمشق، مع أبيه، وهو أيضاً ذو تكوين فقهي وروحي عميق، أكبر الأثر في صياغة شخصيته المتواضعة. أما مساره التعليمي، فتقليدي حيث بدأ دراسة مبادئ علوم اللغة والشرع في دمشق، ثم التحق بالأزهر قبل أن يصبح أستاذاً في الثانوية للشريعة ثم أستاذاً جامعياً للدراسات الإسلامية في كلية دمشق.
وفي هذه الكلية نضج البوطي فكرياً تحت تأثير مصطفى السباعي، عميد الكلية ومرشد الإخوان، وأيضاً تحت تأثير رابطة العلماء الدينية المرتبطة بالإخوان. وبالخصوص، ترَكَ حسن حبنكة الميداني(ت 1978)، وهو أيضاً من علماء الإخوان، ورئيس رابطة العلماء الدينية، كبير الأثر فيه حيث لازمه سنوات طويلة. لكن الشخصية الأكثر تأثيراً في مساره الفكري هي بديع الزمان النورسي (ت. 1960). وصار تأثير الإخوان فيه يقاس بميزان منهج النورسي.
هكذا، حينما قام الإخوان بعمليات مسلحة السنة 1979، وجد البوطي نفسه أمام نقطة الحسم في اتجاهه. فكان خياره المسالمة حيث أدان على شاشة التلفزيون عمل الإخوان العسكري وتبنته السلطة منذ ذلك الحين وصار فقيهها.
وبخصوص التأثير، فإن التقارير المذكورة سابقاً بررت رتبته المتقدمة بسبب كونه شيخ الشيوخ. أي أنه حصل على تأثير واسع بواسطة كتبه ومنشوراته التي فاقت الخمسين مؤلفاً أصدرها في مختلف مجالات الثقافة الإسلامية، وإن كان أغلب مواضعيها دعوياً. هذا الإنتاج الغزير كفل له التقدير بين علماء العالم الإسلامي ومنحه سلطة رمزية. من جهة أخرى، فسرت التقارير تأثيره بدفاعه القوي عن المذاهب الفقهية. وبذلك اختار أن يسير ضد التيار الإصلاحي العام الذي يدعو إلى نبذ المذاهب. ولاشك أن هذا الموقف يوافق الجهات الدينية الرسمية في الدول الإسلامية التي تفضل المحافظة على المذاهب الفقهية كما جرى به العمل لقرون. وأخيراً فان نقده لسلفية أهل الحديث والحنابلة لصالح الأشعرية الصوفية قوبل بالترحيب عند الجهات نفسها وإن كان هذا جعله خصماً لدوداً للسلفيين، خاصة في العربية السعودية. بيد أن أهم ما يرجح كفة البوطي في التقويم الرسمي هو إعادة تأويله الجهاد بالدعوة ورفض العنف المسلح مما لم يرق للجماعات الجهادية.
ومما يسترعي الانتباه في التقارير الثلاثة، أن معدي تقرير سنتي 2009 و 2010 صنفوا البوطي ضمن المدرسة الفكرية التي وسموها بالمدرسة السُّنية التقليدية. لكن معدي تقرير السنة 2011 جعلوا مدرسته هي المدرسة السُّنية ومدرسة الإخوان المسلمين معاً. وبخصوص الربيع العربي، أضاف معدو التقرير الأخير أن البوطي أدان المظاهرات ودعا المتظاهرين إلى تجاهل دعوات مجهولة المصدر تحثهم على الفتنة والفوضى في سورية. وهذا يشير إلى تغير معايير التقويم بين سنتي 2010 و2011 حيث فقد البوطي ثلاث رتب في التصنيف. ففي حين كان رمزاً فكرياً للحرب ضد الإرهاب، صار الآن فقيهاً ضد التغيير.
أول خصائص منهج البوطي التي تسترعي انتباه الباحث، الإرجاء. وليس بمستغرب أن يكون الأمر كذلك متى علمنا أن البوطي أشعري وصوفي. فكون منهجه، على هذا المنوال، جعله قريباً من إسلام الناس أو لنقل بعبارة أدق، من نهج العامة من السنة الذي يمكن وضعه في الوسط بين العلمانية والحركات الإسلامية. يقول البوطي عن معالم منهجه: إنها هي "معالم الأمة الإسلامية الناجية بفضل الله وتوفيقه يوم القيامة، أهل السنة والجماعة، والسواد الأعظم في جماعة المسلمين وفرقهم وفئاتهم". ولكي يحافظ البوطي على تمثيله لعامة السُّنة، وهو أمر صعب في كل الأحوال، عليه أن يدير التنوع الذي يطبع هذا التيار؛ أي عليه أن يؤلف بين ما افترق طبعاً وصقعاً، بين الزعامة الروحية والعلم الشرعي، بين الفقه والتصوف والدعوة والسياسة. في هذا الصدد وصفت الباحثة الفرنسية ساندرا أُوهو منهج البوطي بأنه" مجمع البحرين، في موقف وسط بين الجماعة والمؤسسة، يهدف إلى ترسيخ الأمة على أسس أخلاقية".
كذلك اعتبر البوطي أن فكرة اللامذهبية الرائجة بين أتباع السلفية الإصلاحية، والسلفية الحنبلية والحركات الإسلامية بعامة هي بدعة. ودافع عن مشروعية التقليد وإتباع مذهب معين. وهو يعترض على اللامذهبية استناداً إلى إجماع الفقهاء وعلى الملازمة العقلية، لإن اللامذهبية تؤدي في رأيه إلى الفوضى مما يجلب مفاسد اقتصادية واجتماعية. ذلك واللامذهبية تعني، عنده، وضع "الاجتهاد في غير مكانه وتطبيقه دونَ شرطه وتجاهل سنة الله في الكون من ارتباط فئات الناس بعضهم ببعض في مجال التعاون"؛ أي أن المذهبية تحترم شرط التراتبية في المجتمع الذي جعل أكثر الناس مقلدين ومستفتين وبعضهم فقهاء مفتين على قواعد مذهب معين. هذه الفكرة، لاشك، جعلته يصطدم بالسلفية الحنبلية، وخاصة بناصر الدين الألباني(ت 1999)، الذي كان خصمه الرئيس في كتابه عن اللامذهبية.
جدد البوطي صراعه مع السلفية الحنبلية في كتابه عن السلفية فلا يرى أنها مذهب، بمعنى طريقة متبعة لنهج السلف يختص بها المذهب الحنبلي، أو أهل الحديث أو الإصلاحيون. بل هي منهج جامع لقواعد نقد الرواية وتصحيح الفهم، احتوى أغلبها علم أصول الفقه. ولا يضيره الاختلاف الفقهي الذي حدث بسبب هذا المنهج فالمجتهد مصيب دوماً. لم يكتف البوطي بنقض أساس الفهم المعاصر للسلفية، واعتبارها مرحلة زمنية من بناء المنهج في القرون الأولى، بل جعلها عامة لكل زمان ومكان طالما حُكم فيهما بهذا المنهج. ولأن ابن تيمية (ت 728 هـ) هو مرجع السلفية الأول، انتقده البوطي بشدة. وذكر أموراً رأى فيها تناقضاً في مواقف ابن تيمية من علم الكلام والمنطق والفلسفة. وعابه على مخالفته لجمهور أهل السنة والجماعة في مسائل، كما دافع البوطي عن التصوف وابن عربي خاصة ضد ابن تيمية. وهو يعتبر السلفية – بوصفها مذهباً- بدعة ظهرت مع السلفية الإصلاحية في القرن التاسع عشر.