«البيت الأزرق» بين بطل إشكالي متصوف … وكاتب دنيوي مفترض

بـعدما هـاجـر عـبده وازن مـن الشـعـر إلى رحاب الـسـرد، نشـر نصوصاً سـردية عدة، آخـرها «البيت الأزرق» (منشورات ضـفاف والاختلاف) الذي يــلفتُ الـنـظـر بـنســيجه المـحكم، المـتـعـدّد الأدراج، وباتســاع دوائـر الـدلالة التـي تشــمـل أمراض المجتمع وأسـئلة الـوجـود في عـالم تـنـهشه الأدواء والـكـوابيـس.

لـعـلّ مـا يـستــوقـف القارئ في «البـيْـت الأزرق» قبل كل شيء، الـبناء الـمـركب، الـمـتداخِـل، حيث تـتجاور روايتان وأكـثـر من قصة عـن علائـق عاطفية وجـنـسية، تـنـتـسب إلى واقع مُـفـترض وإلى أجـواء تـخـيـيـليّة تضطـلع بـــــدوْرِ الـمـيــتا- نـصّ الذي يـضيء خـلـفية الـصـنـعة الـسـردية، جــاعـلاً منها جـزءاً مُــكـمّـلا لـنصّ الـرواية المـركزي. بعبارةٍ ثانية، ينـطلق النص من لحـظة بـحثِ الكاتب المفتـرض عن خاتمـة لـرواية يكـتبـها تـعـذّر عليه أن يهــتدي إليها، وكانت هي اللحظة التي تـوصّـل فيها إلى مـخطوطٍ مـن راهب لـبناني، أوْدَعَـهُ لديْه سـجين يـدعى بـّـولْ أنـدراوس المتهم زوراً بقـتلِ سـامية مسـعود عـشيقة تـاجـر في المخدرات. والمخطوط بـحاجةٍ إلى تصحيح اللغة والأخطاء النحوية، بل إلى إعادة كتابة، فـيـقـرر الكاتب أن يـبدأ بالتــعـرف على شخصية صاحب المخطوط الذي وضــعَ حـدّاً لحياته، مـن خلال أشخاصٍ عـرفوه قبل أن تُــلـصق به تـهمة الجريمة.

ومن ثـمّ، تـعرّف الكاتب على الأب ألـبـيـر أســتاذ بـولْ في الجامعة الذي تـعـلق به إلى درجة أنْ أحــبّـه «كما يحب رجل امـرأة»؛ والتـقـى غادة داغــر الـحبـيبة الوحيدة التي أحـبها بــولْ قبل أن يضـطـر إلى فـراقها. ومع غادة ستنـبـثق علاقة حب بينها وبين الكاتب بفضل اهتـمامهما المشترك بشخصية بـولْ الغامضة وحرصهما معاً على استـجلاء جـوانـبـها المـثــيـرة…لأجـل ذلك، لـن يـتعـرّف القارئ على أوراق بـول في صيـغـتها المـنـقـحة إلا في الثلث الأخير من الرواية، بيـنـما طالـعـنا الكاتبُ بـتفاصيل عن تلك اللقاءات الجانبية مـسـتطرداً من حين إلى آخـر إلى استـحضار مـغامـراته مع نساء عـرفهنّ في سياق مختلف، وإلى تسـجيل تأملاته عن المجتمع اللبـناني الخائض تحولات متـسارعة بعـد سـبـعيـنات القرن الماضي… وفي الاتجاه نفسه، يـعود الكاتب المفترض إلى إشـراكنا في بحـثه عن نهاية لروايته الناقصة، من خلال تذكيـرنا بــمسار بطلته جــولـيـيـتْ التي لم تـهـتدِ إلى شكل مقنـع لـلانتـحار.

حكـايات وسـجــلاّت

على هذا النحو، يـغدو البـناء الـعامّ لـ «البـيـت الأزرق» مُــركّـباً مـن حكـايات وسـجــلاّت عدة تـحيط بـالنـواة الصلبة التي تـحـمل عـنوان «أوراقُ بّــولْ»، لكي تـضـيــئـها من خلال المـقارنة، مـثـلما أن هذه الأخـيـرة تـسـلّط بـعضاً من أشـعـتــها على ما يحدث خارج مـحيطها، أي في المجتمع المشدود إلى دينامية مـغايرة. يقول الكاتب المفترض في مطلع الرواية : « .. ولما رُحتُ أفتح أوراقها {المخطوطة} وجدتُ نفسي متـــردداً. خـطرتْ لـي فكـرتي نـفسها: عـليّ أن أبحث عنـه قـبل أن أقـرأ أوراقـه. كنتُ أعــدّ الأمـر بـمثابةِ تـحـدٍّ. إنـنا كـليْـنا في حـال من التـنـافس: هـل تطابق الصورة التي أرسمها لـه بالتــوالي شــخصَـهُ كـما ورد في مـخطوطـته، أم أنـني سـأخطئ في بـحثـي وتـوقـعاتي ؟ «ص 50.

لكنْ، علاوة على عنصر «التنافس» الذي يشير إليه الكاتب، ـنجد أن شكل بناء الرواية هـذا، ذا الأدراج والاستطرادات، يـضـطـلع بـوظيــفة الإضــاءة عـبْــرَ الـمقارنة التي تـفـرض نفـسها، بـين عــالم أوراق بّــولْ الـمُـغـلق، الـمُنـتهي، وعـالم المـجتــمع اللـبـنـاني المـفـتــوح على كلّ التـبـدّلات والتــفاعلات.

لاشك في أن شكـل الرواية الـمركّب قـد وســع مـروحة الدلالات وفــتحها على تأويلات عـديدة. ويمكن الـبدء بـعنوان الرواية لأنـه يـنـطوي على مــفتاح أولي في رسم دائرة الدلالة لرواية «البيت الأزرق». ذلك أن العنوان يُـفيد بالسـجن الاحتـرازي الخاص بالمـرضى النـفسـيـيـن، حيث وُضِــع بّـولْ أول الأمـر. وكـأنّ هذا المـستـشفى يـرمز إلى حجم هذا البلاء الذي يكتسح المجتمعات الحديثة التي غـدتْ فـريسة لأمـراض النفس واختـلال السـلوكات، نتيجة لأسباب كثيرة ترافق اهتزاز الـبنـيات والقيم الاجتماعية، وتـتـحـدّر من أسباب الخوف والقلق المرافقة لمسار العولمة وكوابيـسها… وبّـولْ البطل على رغم أنـفه، المـتـهَـمُ زوراً بـِـجـريمة لـم يـرتكــبها(مثل أبطال كافـكا)، يجد نفسه داخل السـجـن/المستـشــفى محاصراً بأسئلة طالما عـذبـتْـه منذ طفولته وحـرمـتـه من العيش الـهـنيّ. كان، وهو المسيحي المؤمن، يـتيماً محروماً من حنان العائلة، فـواجَه العالم بالمراهنة على الاستقامة والتـعلم والشغف بالقراءة والانفتاح على الناس…لكـن رحـلته لم تصادف ما يسنده في حـبه للعالم وتعـلـقه بالقيم الـمُـثـلى، فـقـرر أن يتحصّـن داخل الخرس، يسمع ولا يتكلم؛ رافضاً الحوار مع عـالم يملؤه الـزيف والبُــهتان.

هروب من الذات

وأضاف إلى اصـطناع الـخــرَس، اللجوء إلى المـشـي عبر السهول والجبال، من غـير هـدف محدد، ولا وجـهة يـتـقصـدها. يقول بـولْ عن علاقته بالمشي : « أذكـر كيف هـربتُ من البيت ولكن من غير سبـب. لم أهرب من أحد، هـربتُ من ذاتي. لم يسبق أن مشيت من دون أن ألتــفت إلى الوراء(…) كانت تلك الـنزهة خطوتي الأولى في هواية المشــي التي أصبحتْ لاحـقاً مـبدأً وربـما فلسفة، والتي جعلتــني شخصاً يمشي أوْ مـشـّـاء. أصبحت مشّاء رغماً عني ولكن بحـرية. لــم أكن مـتـنـزهاً ولا رياضياً ولا تائـهاً ولا صـعلوكاً…مشّاء، شخص يمشي لا يعلم لماذا ولا يعلم متى يـنتهي المشيُ ولا أيـن». ص 267. دخول بّـولْ إلى السجن هو الذي أوقفه عن المشي الذي اتخذه وسيلة للـهرب من الناس وعالمهم الموبوء. إلا أنـه حافظ على خـرَسِـه داخل السجن، متابعاً حياة السجناء في تفاصيلها القاسية ومباذلـها. بل إنـه ارتبط بصداقة مع الشاب المتحوّل جنسـياً «جورج أوْ جورجيـنـا»، وكلمه بصوته الذي كان مغيباً وراء خـرسه، وطلب منه أن يـسلم مخطوط أوراقه إلى الأب بطـرس. كان بولْ قد اتخذ قـراره بالانـسحاب من الحياة نهائياً بعد أن جرب كل إمكاناته في مقاومة تفاهة العالم. ويبدو أن ما أضفى على بّـولْ صفة البطل الإشكالي هو، إلى جانب غـربته، فـهمه الخاص للمسيحية، وفق ما رواه الأب ألـبـيـرْ للكاتب: «كـان بـولْ يقول إن المسيح إنسان مثلي ومثـلك، لماذا تريد الكـنيــسة ُإنــكارَ إنسانـيـته العظيمة؟ ويعتـقد أن يسوع كان يـنتـمي إلى جماعة قـمـران التي تركتْ نصوصاً مهمة عُـرفـتْ بـمخطوطات البحر المـيّت. يـسوع إنسان متـصوف، يقول، ولا أستطيع أن أفهمه إلا بـصفـته متـصوفاً». ص99. ليس مـستـغـرباً، إذن، أن يـضيق العالم بهذا البطل الإشكالي الذي يـتـشـبث بـقـيــمِ الاستعمال بدلاً من قيم التـبادل التي تسود في ظـل الليـبرالية الجديدة وسـطـوة الـعولمة.

غـيـر أن رواية «البـيت الأزرق» لا تـستــكمل حـواشيها الدلالية إلا باستـحضار ذلك الجزء المغايـر، مُـمثـلاً في عالـمها الدنيوي المشـدود إلى اليـومي وإلى العلاقات العابرة والبحث عن سـعادة هنا والآن مهما كانت موقتة وعـابرة. لذلك يبدو ضمنياً، أن نـشـدان الـمـطــلق من لـدُنِ بّـولْ يـقابله الرضا بالـنـسبية والتـناقضات عند الكاتب المـفـترض والشخصيات التي كانت ذات سـلوك دنـيـوي، لا تـرفض الجري وراء ما هـو وهــمـيّ وزائل. ومن هذه الزاوية، تـظـل جـدلية المطلق والنسبي قائمة وحاملة لصراعات المجتمع والأفـراد.

لـقد أنـجز عـبده وازن في «البيـت الأزرق» رواية تـضيء التحولات العديدة التي يعيشها المجتمع اللبنـاني من خلال حبـكة مـركبة، تجمع بين التشويق البوليسي والتقاط شذرات من «الرأي العام» عن الأخلاق والسلوك، وترسم صراع القيم على مـستوى الـمطلق والـنـسـبي بين بطل إشكالي وشخصيات بشـرية لا تـأنف من معانقة كل ما هو دنـيـوي.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى