التأثير الخطير لوسائل التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي على السياسة وعلى البشرية جمعاء
ماهر عصام المملوك

من الضروري أن نعترف بأنّنا نعيش حقبة غير مسبوقة في تاريخ البشرية، حقبة يمكن وصفها بأنّها مرحلة الانقلاب الشامل على كل منظومات الحياة التي عرفها الإنسان منذ بزوغ الخليقة. لقد أدّت ثورة الاتصالات والتكنولوجيا إلى تغييرٍ جذري في نمط العيش، حتى أصبحت أدوات التكنولوجيا الرقمية جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا اليومية، بل من لحظاتنا الدقيقة والمحمولة على شاشات لا تفارقنا. هذا الاندماج المطلق خلق واقعًا جديدًا تُعيد فيه الآلة تشكيل الإنسان، سلوكه، ووعيه، ومواقفه، إلى درجة تُثير القلق حول مستقبل المجتمع والدولة والهوية والعقل البشري ذاته.
لم يكن يتخيّل أحد أن يتمكّن جهاز صغير يُحمل في راحة اليد من قلب حياة البشر رأسًا على عقب. فقد تغلغلت التكنولوجيا في أدق تفاصيل الحياة الشخصية والأسرية والاجتماعية، حتى أصبحت قادرة على خلق مسافات نفسية بين أفراد البيت الواحد رغم قرب المكان. وامتد هذا التغلغل إلى السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة والدين، لتتحول التكنولوجيا من مجرد وسيلة إلى فاعلٍ أساسي في صناعة القرارات وتوجيه السلوك وإعادة هندسة الوعي الجمعي.
تفكك العلاقات واهتزاز البنى الاجتماعية
أمرٌ يصعب على الكثيرين تصديقه هو أن وسائل الاتصالات الحديثة باتت قادرة على تفتيت العائلة وتفكيك المجتمع، بل وحتى هزِّ استقرار الحكومات وإسقاط الأنظمة. إن هذا النفوذ ليس نابعًا من قوة مادية ملموسة، بل من قوة خفية، تُمارس تأثيرها من خلال تدفق لا ينقطع للمعلومات والصور والأخبار والمحتويات التي تستهدف العقل البشري مباشرة. هذا التأثير اللامرئي، الذي لا يمكن لمسه باليد، أصبح أكثر فاعلية من كل الأدوات التقليدية في التاريخ.
لم يعد التفكك الأسري نتيجة خلافات تقليدية أو ضغوط اقتصادية، بل أصبح وليدًا لعالم افتراضي تتداخل فيه المشاعر والولاءات والاهتمامات مع شخصيات غير حقيقية، أو مع عوالم رقمية تتجاوز قدرة الأسرة على الاحتواء. فالمحتوى الرقمي لا يعرف الخصوصية، ولا يحترم المسافات، ولا يتوقف عند حدود الزمن أو القيم أو العقائد.
الأخطر من كل ذلك أن تكنولوجيا الاتصال حوّلت الحقيقة إلى مفهوم سائل. معلومة واحدة يمكن أن تحمل عشرات الروايات، وكل رواية تظهر وكأنها الحقيقة المطلقة في فضاء إعلامي مشبّع بالتضليل، الخداع، وإعادة تدوير الزيف. اليوم، قد يسمع الإنسان الحدث ذاته عبر الإعلام التقليدي بصورة، لكن ما يتلقّاه من وسائل التواصل يكون مختلفًا كليًا، متناقضًا، حدّ أن يبدأ الفرد في الشك في قدرته الفكرية، وفي سلامة إدراكه، بل وفي منظومته العقائدية والوجدانية.
لقد أصبح الإنسان أسيرًا لوابلٍ من المعلومات المتعارضة التي تُنهكه نفسيًا، وتسرق يقينه، وتجعله زائرًا دائمًا لمنطقة رمادية لا يستطيع فيها التمييز بين الحقيقة والوهم. وهذا بدوره أدّى إلى تآكل الثقة في المؤسسات، وفي المرجعيات الفكرية، وحتى في الذات.
في السياسة، لم تعد الدول والحكومات هي الطرف الوحيد القادر على صنع الأحداث أو التحكم في الرواية والوعي. اليوم، يُمكن لفرد واحد عبر هاتفه أن يطلق شرارة حرب أهلية، أو أن يشعل غضبًا جماهيريًا، أو أن يحرّض على ثورة، أو أن يشكّل رأيًا عامًا متكاملًا من خلال مقطع مصوّر لا يتجاوز دقائق.
ونرى اليوم كيف أصبحت الصراعات السياسية والحكومية تُفسَّر وتُروى بطريقة مختلفة من قبل أطراف متعددة عبر وسائل التواصل، وكل طرف يُقدّم رواية تتوافق مع أهوائه ونزعاته، وليس حسب انتمائه الوطني أو التاريخي أو الجغرافي. وهنا تكمن خطورة التكنولوجيا: لقد نزعت عن الإنسان معايير التوازن والموضوعية، واستبدلتها بمعايير قائمة على الرغبة والانفعال والبحث عن الإثارة.
وإن كانت وسائل التواصل قد غيّرت العالم بهذه القوة، فإنّ ما هو قادم مع الذكاء الاصطناعي سيكون أعظم وأخطر. نحن أمام ثورة تكنولوجية قادرة على محاكاة العقل البشري، بل وتجاوزه في بعض المجالات. الأدوات الذكية تستطيع تحليل السلوك الإنساني والتلاعب به، وتشكيل القرارات الفردية والجماعية بطرق لا يدركها المستخدم نفسه.
الخوف الحقيقي اليوم هو أن الذكاء الاصطناعي قد يتحول من أداة إلى قوة تتحكم في أنماط التفكير البشري. وإذا استمر التطور بهذه الوتيرة، دون ضوابط أخلاقية أو قانونية صارمة، فقد نصل إلى مرحلة تهدد وجود البشرية نفسها، ليس بالمعنى المادي فحسب، بل بمعنى فقدان الإنسان لجوهره، لوعيه، لقراره الحر، ولمعنى إنسانيته.
إنّ التأثير الخطير للتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي لم يعد افتراضًا أو مبالغة، بل حقيقة ماثلة أمام أعيننا. لقد غيّرت التكنولوجيا شكل العالم، وأعادت تشكيل الإنسان، وصنعت واقعًا جديدًا يتقدم بسرعة أكبر من قدرة القيم والأعراف والمؤسسات على مواكبته. ولذا، فإن الحاجة أصبحت ملحّة إلى بناء وعي عالمي جديد، يوازن بين استخدام التكنولوجيا والاستمرار في حماية الإنسان، عقله، ومجتمعه، وهويته.
فالتكنولوجيا، مهما بلغت من قوة، يجب أن تبقى في خدمة الإنسان… لا أن يتحول الإنسان إلى خادمٍ لها.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة



