التأرجح التركيّ بين واشنطن وموسكو

 

هناك شبه بين رجب طيب إردوغان وجمال عبد الناصر، من حيث التأرجح بين واشنطن وموسكو. تأرجَح الزعيم المصري بين العاصمتين، منذ اقترابه من السوفيات في أيلول / سبتمبر 1955، رداً على قيام «حلف بغداد» واعتماد البريطانيين على أنقرة وبغداد كمُرتكزَين في الإقليم، فيما رفض عبد الناصر منذ عام 1954 أن تكون القاهرة امتداداً إقليمياً للندن. مع صدام الشيوعيين والعروبيين في بغداد، منذ أيلول / سبتمبر 1958، ودعم موسكو للأولين، اختارت القاهرة اللقاء مع واشنطن في بيروت لانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً، فيما مضى عبد الناصر في صدامه مع الشيوعيين في بغداد ودمشق والقاهرة، واختار المجابهة العلنية مع الكرملين في عام 1959، وهناك وثائق أميركية عن تعاون القاهرة وواشنطن في انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 في بغداد، أطاح من خلاله العروبيون بحكم عبد الكريم قاسم وداعميه الشيوعيين. انتهى تقارب عبد الناصر مع البيت الأبيض، في شباط / فبراير 1964، لمّا تقاربت واشنطن مع تل أبيب في حلف جديد، في عهدَي ليندون جونسون وليفي أشكول، بخلاف بن غوريون الذي كان يركز على التحالف مع لندن وباريس، وقد كانت زيارة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف لمصر في أيار / مايو 1964، بداية جديدة للعلاقات المصرية – السوفياتية تعزّزت إثر حرب 1967 التي كانت حصيلة أميركية – إسرائيلية لما حصل بين جونسون وأشكول عام 1964.

هنا، ومنذ تسلّم «حزب العدالة والتنمية» للسلطة في أنقرة، في تشرين الثاني / نوفمبر 2002، كانت هناك مؤشرات أميركية عديدة على اعتماد إردوغان «كنموذج أميركي للعالم الإسلامي»، في مواجهة ظاهرة أسامة بن لادن كنوع من الاستراتيجية عند واشنطن للتكيّف مع واقع جديد فرضه تنظيم «القاعدة» في مرحلة «ما بعد 11 أيلول / سبتمبر 2001»، وخصوصاً مع قراءة أميركية، ليس فقط بعدم قدرة الأنظمة العربية والإسلامية التقليدية الحليفة، بطبعتَيها الديكتاتورية العسكرية وتلك الملكية – الأميرية، على الاستمرار في خدمة المصالح الأميركية بشكل فعّال، وإنّما بقراءة برزت عند «المحافظين الجدد» المسيطرين في إدارة بوش الابن، بأنّ الديكتاتوريات والوهابية قد أنجبتا تنظيم «القاعدة».

اقتربت واشنطن من «جماعة الإخوان المسلمين»، وفتحت حواراً مع قيادة التنظيم العالمي، منذ عام 2005، كانت ثماره الضغط على الرئيس المصري لإشراكهم في الانتخابات البرلمانية ذلك العام، ثم مشاركة «الحزب الإسلامي العراقي» في حكومة نوري المالكي عام 2006، وهو ما عنى كسره مقاطعة سنّة العراق العرب لـ»العملية السياسية» في عراق ما بعد صدام حسين. مع «الربيع العربي» عام 2011، شجّع باراك أوباما ودعَم وصول «الإخوان المسلمين» إلى الحكم في تونس والقاهرة، ومشاركتهم في الحكم في طرابلس الغرب وصنعاء، ودعَم تزعّمهم للمعارضة السورية. وفي أيلول / سبتمبر 2011، عندما زار إردوغان مصر وليبيا وتونس، بعد سقوط حسني مبارك ومعمّر القذافي وزين العابدين بن علي، تذكّر الكثيرون منظر السلطان العثماني سليم الأول بعد دخوله القاهرة إثر تغلّبه على المماليك في معركة الريدانية، وهو لم يحاول أن يخفي أنّ هناك طبعة ثانية لما حصل في عام 1517. في هذا الصدد، هناك مؤشّرات كثيرة على أنّ الفريق أحمد شفيق قد تغلّب على الدكتور محمد مرسي في انتخابات الجولة الثانية للرئاسة المصرية، وأنّ تردّد «المجلس العسكري المصري» أمام تهديد الإسلاميين بتفجير مصر، في إعلان النتائج قد حسمه ضغطٌ أميركي باتجاه معاكس استغرق أياماً نحو تسليم محمد مرسي الرئاسة.

عاش إردوغان شهر عسل مع واشنطن انتهى مع انقلاب عبد الفتاح السيسي على مرسي، في 3 تموز / يوليو 2013، الذي دعمته المؤسّسة الأمنية الأميركية بفرعَيها، وزارة الدفاع – البنتاغون والمجمع الاستخباري، فيما كان أوباما بالطرف الآخر. وليس صدفة أن يقول الأمير تركي الفيصل، في مقال صحافي: «إننا أسقطنا مرسي رغماً عن أوباما»، وهو مقالٌ نُشر عام 2015 بعد انفجار الخلاف الخليجي – الأميركي، إثر الاتفاق النووي الإيراني في 14 تموز / يوليو 2015. حتى يوم تقارب إردوغان مع بوتين، في لقاء 9 آب / أغسطس 2016، عاش الزعيم التركي ثلاث سنوات وشهراً هي أصعب سنوات عمره السياسية، تخلّلتها مجابهة قاسية مع موسكو، خريف عام 2015، مع إسقاط الأتراك لطائرة روسية عند الحدود السورية – التركية، بعد شهرين من التدخّل العسكري الروسي في سوريا في 30 أيلول / سبتمبر، وتخلّلتها محاولة انقلاب 15 تموز / يوليو 2016، التي جرت ضد إردوغان بدعمٍ «ما» من واشنطن.

في 9 آب / أغسطس 2016، اختار إردوغان اللعب على الحبلين، الروسي والأميركي، يشدّ الأول من أجل إرخاء الثاني (شراء صواريخ «إس 400»)، ويقدّم للثاني ما يرضيه (كما يفعل إردوغان مع الأميركيين في ليبيا ضدّ الروس الداعمين لحفتر)، ويقدّم للروس ما يرضيهم (في حلب كانون الأول / ديسمبر 2016 وغوطة نيسان / أبريل 2018، وفي ناغورنو كاراباخ تشرين الثاني / نوفمبر 2020)، ويزعج الروس من خلال فرض واقع عسكري في إدلب، عبر اتفاق 5آذار

/ مارس 2020، بمساندة أميركية لأنقرة. يتحالف التركي مع الروسي ضدّ الأميركيين في موضوع أكراد (قوات سوريا الديمقراطية)، وهو منذ مؤتمر سوتشي، أواخر كانون الثاني / يناير 2018، قد تعاون مع الروسي ضد الأميركي في قلب مسار العملية التفاوضية السورية بين السلطة والمعارضة باتجاه التركيز على المسار الدستوري بدلاً من المسار الانتقالي.

هناك مؤشرات على أنّ لعبة إردوغان بين الحبلين الروسي والأميركي على وشك الانتهاء، مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، وهو الذي على ما يبدو قد اختار سياسة المجابهة مع موسكو وأنقرة، على الأقل في الساحة السورية. هذا سيقود إلى تقاربات روسية – تركية أكثر، في أكثر من صعيد سورياً، وهناك مؤشرات على أنّ زيادة دعم بايدن للأكراد السوريين ستشد كثيراً من العصب التركي، وهو ما يمكن أن يدفع أنقرة للبحث عن حلول سياسية، بالتعاون مع موسكو للأزمة السورية لا ترضى عنها واشنطن.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى