التاريخ الموازي (عبد المنعم سعيد)

 

عبد المنعم سعيد


تسارعت الكوارث المروعة حتى وصلت أصداؤها دامية إلى مشيخة الأزهر والكاتدرائية المرقسية، وضربت كثرة يدها كفا بكف، حزنا وحسرة. ولكن ما جرى ما كان ينبغى له أن يكون مفاجأة، فالتاريخ المصرى الحديث منه والقديم فيه كثير من الأيام الحزينة، والإخفاقات الدورية التى تشده دوما إلى الخلف خاصة بعد كل دورة من دورات التقدم والثورات الباهرة فتنتهى إلى تراجع وانكسار تعود كلها إلى أسباب لم نفلح فى الكشف عنها، بل إننا على الأغلب نقوم بالتغطية عليها بخلق تاريخ «موازٍ» لا ينجح إلا فى ردم التاريخ الحقيقى، تماما كما فعلت «السوق الموازية» بالسوق الحقيقية القائمة على العرض والطلب.
والمثال قريب، فكعادته فى حواراته الشيقة والمثيرة مع اللامعة لميس الحديدى، انتهز الأستاذ القدير محمد حسنين هيكل ثانية صمت لكى ينقل الموضوع المثار إلى لحظة البرهنة على نقطة راح يؤكد عليها، فسأل سائلته: هل تعرفين كم يبلغ الناتج المحلى الإسرائيلى مقارنة بمثيله المصرى؟. سارعت صاحبة البرنامج إلى القول بشكل متتابع: كثير، ضعف، أضعاف. كانت ملامحها كلها تقول إن الأمر كارثى بشكل ما. لم يعلق صاحب السؤال على التعليق وإنما مضى فى حديثه يبنى على النقطة التى جرى توا إثباتها، وهى ما سوف نعود له بعد قليل. ولكن ما نحتاجه هنا لكى نثبت وجهة نظر أخرى ذكر مجموعة من الحقائق التى تجعل ما قيل وما جرى التأمين عليه ليس دقيقا بالمرة. فالناتج المحلى الإجمالى الإسرائيلى لعام ٢٠١١ مقدرا بالقدرة الشرائية للدولار هو ٢٣٧ مليار دولار تقريبا؛ أما القيمة الاسمية فهى ٢٤٤ مليار دولار. الرقم المصرى فى الحالة الأولى هو ٥٣٤ مليار دولار، وفى الحالة الثانية ٢٥٢ مليارا. أى أن مصر تتفوق على إسرائيل فى الحالتين من حيث حجم الاقتصاد الكلى، خاصة فى ظل مصداقية المعيار الأول على الثانى. وبالطبع فإن هذه المعلومات لا ينبغى أن تكون مرضية لو أخذنا المساحة وعدد السكان فى الاعتبار، ولكن «القوة الاقتصادية» للدولة تؤخذ بحجمها الكلى وليس بمتوسط دخل الفرد، وهكذا أصبحت الصين القوة الاقتصادية الثانية فى العالم باقتصاد حجمه خمسة تريليونات دولار بعد الولايات المتحدة التى بات اقتصادها قرابة ١٦ تريليون دولار.
ولكن النقطة التى أراد أستاذنا البرهنة عليها كانت أن الضعف المصرى العام فى المنطقة رجع إلى ذلك القرار الذى جرى اتخاذه فى عهد الرئيس السادات، والغلو فيه خلال عصر الرئيس مبارك، وكان الخروج من العالم العربى أو «الحلفاء الطبيعيين»، بعقد معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية ومن ثم البعد عن الصراع العربى ـ الإسرائيلى. منطق الأستاذ هيكل هذا كان يخلق تاريخا «موازيا» للتاريخ المصرى؛ حيث تبدو السوق التاريخية «الموازية» وكأنها هى السوق الأحق بالتواجد فى مواجهة سوق أخرى رأت أن أفضل ما تفعله مصر هو أن تتبنى سياسة خارجية، ودورا إقليميا ودوليا يتماشى مع إمكانياتها الحقيقية، وعناصر القوة المتوافرة لديها بدلا من الجرى وراء أدوار أكبر منها بكثير فتنتهى إلى ما انتهت إليه تجربة محمد على، ومن بعده جمال عبدالناصر، بهزيمة مروعة تقلص التواجد المصرى فعليا ولكن بعد دفع ثمن فادح. هذا التاريخ الموازى ظل ضاغطا على التاريخ المصرى الحقيقى المتناسب مع قدرتها، التى جعلت نسبة المتعلمين فى مصر عام ١٩٧٤ لا تتجاوز ٣٢ ٪ ممن كانوا فى سن التعليم، يطلب منهم أن يكون لهم أدوار إقليمية وعالمية حقيقية بالطبع، ولا تقوم على الصياح فى «صوت العرب» أو الخطابة الملتهبة بأبيات الشعر وما سجع من الكلام.
والحقيقة لم تأت تعبيرات «السوق الموازية» بدلا من «السوق السوداء»، و«تحريك الأسعار» بدلا من «رفع الأسعار»، والصحف «القومية» بدلا من الصحف «الحكومية»، و«التاريخ الموازى» بدلا من التاريخ الحقيقى، وهكذا أمثلة من فراغ، وإنما لها جذور كامنة فى حالة الإخفاق القومى الذى جرى لنا على مدى أكثر من مائتى عام من الدولة المدنية التى أقامت الدولة المصرية الحديثة ولكنها فشلت فى الأخذ بيدها إلى صفوف الدول المتقدمة التى نعرفها فى عالم اليوم. وحتى لا يساء فهم الأمور فإن حال مصر قبل المائتى عام لم يكن أسعد حالا، وعلى مدى ٢٤٠٠ عام منذ الغزو الفارسى لمصر أخذت الأحوال المصرية فى التدهور حتى إذا ما جاءها الغزو الفرنسى عام ١٧٩٨ كان شعب مصر قد انخفض تعداده من قرابة عشرة ملايين نسمة فى نهاية العصور الفرعونية إلى اثنين ونصف مليون نصفهم من العميان.
هذه الحالة البائسة التى خرجت بها مصر من عهد الخلافة العثمانية إلى عصر محمد على سرعان ما أخذت فى التغير، ومع التغيير الذى استمر لأكثر من قرنين كان الخيار المصرى قائما إما أن تبنى دولة قوية حديثة تكون حركتها الإقليمية والدولية متناسبة مع ما تحققه من تقدم فى ساحات التعليم والتصنيع والثقافة المدنية وبناء المؤسسات العلمية والسياسية؛ أو أن تبدأ فورا من حالتها المتهافتة فى لعب دور إقليمى يستنزف طاقاتها ويجعلها عرضة للتحالفات المعارضة الأكثر قدرة ومكانة. وكان الخيار الأول هو ما اتخذته معظم دول العالم خلال خطواتها الأولى على الطريق من أول الولايات المتحدة التى نأت بنفسها عن التحالفات الأوروبية، وحتى كوريا الجنوبية والبرازيل التى لا يسمع أحد عنها اللهم إلا فى تكتلات اقتصادية، والصين التى تصمم حتى الآن أنها من دول العالم الثالث، وتركيا التى اختارت لسنوات الخيار «صفرا» فى صراعاتها الإقليمية قبل انطلاقها للعب دور إقليمى وسط الحاضنة الأطلنطية.
نصيبنا كان الخيار الثانى، فلم يصبر «محمد على» على بناء الصناعة المصرية والجيش المصرى حتى أخذهما إلى أبواب عاصمة الخلافة لكى ينتهى به الأمر إلى الحدود المصرية بعد تفكيك كل ما بنى. وتكررت القصة مع الخديو إسماعيل حينما جرى التحديث ولكنه سرعان ما ذهب إلى أفريقيا وانتهى به الواقع إلى الديون والمنفى. وظن الملكان فؤاد وفاروق أن ملكهما لا يستكمل إلا بالخلافة والجامعة العربية وحرب فلسطين فى وقت كانت مصر فيه تناطح البرتغال وإسبانيا، فجاءت النكبة. قصة عبدالناصر بعد ذلك معروفة، وبعد خطة خمسية واحدة، ومستوى من التعليم لا يزيد على ٢٥٪ كان جاهزا لكى يطالب خصومه العالميين بالشرب من البحرين الأبيض والأحمر، فكان ما كان. التاريخ «الموازى» بعد ذلك حكى القصة بطريقة أخرى، لكى تجعل التحرير كارثة، وبقاء الأرض حرة مرضا عضالا، والحفاظ عليها محررة والأعلام فوقها خفاقة تراجعا وخسة وفقدانا لموارد. كان المرض الحقيقى هو أن التنمية وبناء القدرات وعناصر القوة ورفض الاستدراج إلى المعارك الحقيقية أو الوهمية- قد باتت ضحية طموحات وخيالات امتصت رحيق التقدم من الجسد المصرى المتأرجح بين نشوة انتصارات مؤقتة، ونكسة ونكبة هزائم دائمة.

صحيفة المصري اليوم

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى