التحركات الأميركية المستجدة في المنطقة.. أين موقع الاحتلال الإسرائيلي؟
وسام إسماعيل
منذ أكثر من شهرين، عادت الحيوية إلى التحركات الأميركية في المنطقة بما أوحى بإعادة مراجعة الولايات المتحدة الأميركية لسياساتها، وتأكيد استمرارية انخراطها في قضايا المنطقة، إذ إن زيارة وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن إلى السعودية ومن قبله زيارة مستشار الأمن القومي جيك سوليفان معطوفتين على إعلان القيادة المركزية الأميركية عن وصول أكثر من 3000 بحار وعنصر إضافي من مشاة البحرية إلى الشرق الأوسط لا يمكن أن تترجم إلا في هذا الإطار.
وإذا كانت عودة العلاقات السعودية -الإيرانية قد أزعجت الإدارة الأميركية بسبب عدم توافقها مع المسار الاستراتيجي الأميركي الذي يقوم على استمرار سياسة الاحتواء والتضييق على الجمهورية الإسلامية، بالإضافة إلى تعارضه مع مسعى تحقيق سلام سعودي -إسرائيلي، فإن تحقيق هذه العودة برعاية صينية ومباركة روسية قد يترك تأثيرات سلبية على مكانة الولايات المتحدة الإستراتيجية وقدراتها الردعية العملانية.
ففي اللحظة التي يتأجج فيها الصراع الدولي نتيجة إصرار عدد من القوى العالمية على إلغاء مفاعيل النظام العالمي الأحادي عبر إرساء قواعد نظام عالمي متعدد الأقطاب، يعدّونه أكثر عدلاً وأماناً، تزداد تعقيدات المشهد الدولي أمام الولايات المتحدة الأميركية من خلال ما يبدو أنه تصدع لعقد الحلفاء نتيجة عدم القدرة على هزيمة روسيا في شرق أوروبا، والاكتفاء بحالة الترنح التي تحكم الجبهة في أوكرانيا، ورفض الدول الخليجية الاصطفاف في مواجهة روسيا والصين.
بالإضافة إلى ما يخلفه الانقسام الإسرائيلي الداخلي، من خلال تأثيرات سلبية على مكانة الكيان وقدراته الموظفة دائماً في خدمة المشروع الأميركي، من فراغ يستدعي حتماً المبادرة إلى التدخل الأميركي المباشر حين تعدّ الولايات المتحدة الأميركية ذلك حاجة حيوية.
من ناحيته، يقارب الكيان الإسرائيلي المشهد في الشرق الأوسط انطلاقاً من رؤيته التي تفترض أنه المستهدف من أي انفتاح أو تقارب يمكن أن يحدث بين أي دولة إقليمية أو عالمية من جهة وإيران أو حلفائها من جهة أخرى.
وعليه، فإذا كان من الواقعي، وفق المنطق الإسرائيلي، النظر بعين الريبة إلى الانفتاح العربي على الجمهورية الإسلامية أو سوريا أو حتى الحديث عن تسوية للواقع اليمني أو اللبناني، فإن القلق الإسرائيلي من أي علاقة تربط أياً من دول المنطقة بروسيا أو الصين أو حتى مجرد تفكير أي من هذه الدول في التوجه نحو “بريكس” أو “شنغهاي” أو غيرهما من التحالفات والمنظمات المصنفة كتهديد للمصالح الغربية لا يعبّر عن مخاوف الكيان الإسرائيلي بقدر ما يعبّر أكثر عن هواجس الولايات المتحدة الأميركية.
حتى هذه اللحظة، استطاع الكيان الإسرائيلي أن يظهر الحيوية الأميركية المستجدة في المنطقة على أنها تعبير عن رد فعل أميركي يهدف إلى تبديد المخاوف المباشرة للكيان الإسرائيلي من التفاعلات الدولية التي تحيط به، مع محاولة وضعها في إطار يجمع أيضاً التهديدات الإستراتيجية التي قد تطال مكانة الولايات المتحدة ودورها الحيوي في المنطقة.
فالعمل على إظهار حراك المقاومة على حدوده الشمالية والحديث الدائم عن استفزازاتها، بالإضافة إلى اتهام الجمهورية الإسلامية بإدارة العمل المقاوم في الضفة والقطاع ودعم محور الممانعة والمحافظة على خطوط التواصل بين أطرافه، من دون أن ننسى التأثيرات السلبية المفترضة لاتفاق تطبيع العلاقات الإيرانية- السعودية والانفتاح العربي على سوريا على اتفاقية التطبيع المحتمل مع المملكة على أنها سياق من الأحداث المرتبطة التي لا تخرج عن إطار المسعى الهادف إلى إضعاف الولايات المتحدة وتقييد قدراتها الحيوية، والتي من ضمنها ضرورة المحافظة على تفوّق الكيان الإسرائيلي كشرط لازم في هذا المجال.
غير أنه من خلال مراقبة واقع الكيان الإسرائيلي المنقسم على نفسه والعاجز حتى اللحظة عن ابتداع صيغة توافقية تؤسس لشكل جديد من السلطة القادرة على إدارة الانقسام العمودي للمجتمع الإسرائيلي، بالإضافة إلى فشل نتنياهو في الموازنة بين حاجته إلى اليمين المتطرف، الذي يمثله بن غفير وسموتريتش، وبين ما كانت تطلبه إدارة بايدن من تهدئة وعدم جر المنطقة إلى حرب في توقيت تعدّه الإدارة الأميركية ذا تأثير سلبي على الجهد الأميركي المبذول في المعركة الكبرى مع روسيا والصين، يمكن القول إن تلك الحيوية الأميركية لا ترتبط بحاجات الكيان الإسرائيلي بقدر ارتباطها فعلياً بحاجات الولايات المتحدة الأميركية.
فالولايات المتحدة الأميركية قد بيّنت في إستراتيجيتها الأخيرة للأمن القومي أن مهمتها الأساسية في العقد الحالي، الذي وصفته بالحاسم، تتمثل في تحديد شروط المنافسة الإستراتيجية التي تضمن لها مصالحها عند تشكيل النظام الدولي الجديد، من دون أي تركيز على حاجات الكيان، إلا في ما قد يخدم مشروعها. أما بالنسبة إلى الشرق الأوسط، فقد أغفلت عن تطوير تقنيات العلاقة مع حلفائها وحافظت على سلوكها التقليدي من خلال الاحتفاظ بنظام من الشراكات الإستراتيجية التي تهدف إلى مواجهة التهديدات التي تحيط بموقعها، غافلة بذلك عن طموح دول المنطقة بالتحول نحو التنمية وتنويع الخيارات.
بالمقابل، فقد كان الحراك الصيني أكثر فعالية في وضع آليات جديدة لمستقبل العلاقات في المنطقة لناحية عدم الانحياز إلى أي طرف والتركيز على تحقيق الأمن من خلال التعاون والتنمية.
وإذا كانت الصين قد أعلنت مراراً أنها لا تستهدف مواجهة الولايات المتحدة، فإن سياساتها لم توافق توازنات القوى والأحلاف التي حرصت واشنطن على تكريسها. وفي حين يظهر الخطاب الصيني مسالماً، يأتي الخطاب الروسي أكثر عدوانية تجاه الولايات المتحدة، إذ يمكن ملاحظة تعمّده إظهار أي سلوك إقليمي على أنه يستهدف موقعها. فالتركيز على آثار التزام المملكة العربية بقرارات “أوبك” واستمرارها بالتخفيض الطوعي لإنتاج النفط، بالإضافة إلى دعم الجمهورية الإسلامية في جهودها لكسر عزلتها الإقليمية، وإصرارها على عدم الخضوع لمطالب الولايات المتحدة الأميركية بالتخلي عن حلفائها الإقليميين وتفكيك برنامجها البالستي يظهر توجه هذا الخطاب.
وعليه، يمكن وضع التحركات الأميركية في المنطقة، انطلاقاً من محاولاتها لإلغاء آثار الاتفاق السعودي – الإيراني إلى تسريع مسار تطبيع العلاقات الإسرائيلية- السعودية مروراً بمحاولة تقييد الجمهورية الإسلامية في الخليج وعلى الحدود السورية- العراقية، من دون أن ننسى الإصرار الأميركي على تغيير آلية عمل القوات الدولية في جنوب لبنان، في إطار محاولاتها للحد من الأضرار التي تطال موقعها، إذ إن الأحداث الأخيرة لا تستهدف بالدرجة الأولى أمن الكيان الإسرائيلي، وإنما تؤثر في مسار الصراع الدولي المستعر حول كيفية إرساء توازنات وقواعد النظام الدولي الجديد. فالتوجه الصيني إلى المنطقة لا يستهدف الكيان الإسرائيلي، وإنما يسعى إلى دمجه في إطار مشروع “الحزام والطريق”.
أما بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، فإنها لن تربط أبداً بين إعادة علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية ومسار التطبيع مع الكيان. فالفلسفة الحاكمة للعقل السعودي لا تدلل على خلاف أيديولوجي مع الكيان الإسرائيلي، وهي تبرر علاقاتها الدولية والإقليمية من خلال المصلحة فقط.
أما المنطق الإيراني، فإنه لا يحصر عداءه بالكيان الإسرائيلي فقط، وإنما يسوق لفكرة أن الحرب الكبرى أو الأخيرة ستستهدف إخراج الأميركي من المنطقة، وبالتالي يظهر الكيان الإسرائيلي في هذه الفلسفة على أنه عنصر ثانوي.
وبالتالي، يمكن القول إن المرحلة الحالية تفترض تحركاً أميركياً وفق التوقيت الأميركي بعيداً عن ما تتطلبه الأجندة الإسرائيلية.
فإذا كان من الممكن الحديث عن حراك عسكري أميركي في المنطقة، فمن الواقعي القول إن الإدارة الأميركية التي تشعر بأفول القرن الأميركي قد تتحرك للحفاظ على موقعها العالمي. وإذا كانت الولايات المتحدة تتلمس مدى خطورة الحراك العالمي الموجه ضد أحاديتها، ومن دون أن نغفل إمكانية استفادة الكيان من مطلق تحرك أميركي، فإنها لن تخاطر بالتحرك فقط من أجل حماية كيان يُحكم من مجموعة متطرفة تسعى للاستفادة من الصراع الدولي من أجل تحقيق أهداف داخلية ضيقة.
الميادين نت