التحولات المخمورة (سعيد الناجي)

 

سعيد الناجي

سعد الله ونوس من المسرحيين العرب القلائل الذي اعترفوا بالتحولات التي عرفتها تجاربهم في الكتابة المسرحية. لقد انتقل ونوس من صميم الوثوقية والإيمان بمسرح التسييس، وبقدرة المسرح على الفعل في حركة التاريخ، إلى شساعة الاعتراف بأوهام التسييس، وسراب تأثير المسرح على التاريخ.
قبيل وفاته، سيصرح في أحد حواراته: «كنت أشعر بأن المعاناة الذاتية أو الخصوصيات الفردية أمور بورجوازية، سطحية وغير جوهرية يمكن تنحيتها، كان اهتمامي منصبا على وعي التاريخ، لذلك اعتبرت، مخطئا، أن الاهتمام بحركة التاريخ يجب أن يتجاوز الخصوصيات الفردية وفخاخ الكتابة البورجوازية، لهذا كنت على مستوى الكتابة المسرحية، أشعر دوما بأني لست في جلدي».
هكذا سيعترف ونوس بغربته في ما كان يكتب، لا أعتقد أن كاتبا مسرحيا عربيا استطاع أن يعترف مثله، وأن يكشف عن السراب الذي تحكم فيه وفي رؤيته للمسرح وعلاقته بالمجتمع. للأسف، المسرح العربي، كان ولا يزال، مليئا بالوثوقيات…
لكي يصل ونوس إلى فداحة هذا البوح وانتقاد الذات، احتاج إلى مدة صمت وتأمل… هي تلك المدة التي تعرفتُ فيها على تجربته في المسرح وتقاطعها مع مسرح برتولد برشت… لقد توقف عن الكتابة وارتهن للصمت والتأمل قرابة 13 سنة، من نهاية سنوات السبعين من القرن العشرين، إلى مطلع التسعينيات، التي عاد فيها بمسرحية «الاغتصاب».
من مرحلة البدايات الأولى، انتقل ونوس إلى بناء تصوره لمسرح التسييس، حيث يمتلك المسرح وظيفة أساسية تتجه إلى تحريك بركة التاريخ، وتحريض الناس على تغيير واقعهم. واستثمر لذلك كل الجماليات والأساليب، وتفاعل تفاعلا كبيرا مع نظرية المسرح الملحمي. وأكيد أن المرحلة برمتها كانت مرحلة سياسية بامتياز، وأنه لم يكن بالإمكان الخروج عن مستلزمات المرحلة، خاصة بعد حدث كبير وعميق مثل هزيمة 1967.
بعد صمت وتأمل، سيعود ونوس برائعته «الاغتصاب»، عاد إلى الموضوع السياسي نفسه، ولكن بمقاربة أخرى… وستكشف لنا المسرحية جانباً آخر من القضية الفلسطينية، هو من تداعيات العنف الصهيوني، ولكنه جانب فردي وشخصي جداً… وربما، سنقرأ مسرحية عربية لأول مرة تلخص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في تداعياته على الطرفين، وسندرك أن إسرائيل «ورطة لليهود أنفسهم». نعم مثل هذا الخطاب كان متداولاً، وإن محدوداً، ولكن مشاهدته على المسرح، من خلال العجز الجنسي الذي يعصف بشخصية شرطي إسرائيلي، تحكمت في تربيته المخابرات حتى نسي أنه كان فناناً موسيقياً، كل ذلك كان نوعاً جديداً من الكتابة الدرامية في المسرح العربي.
انتبهت مسرحية «الاغتصاب» إلى الحياة المشتركة على أرض فلسطين، إلى أجيال الفلسطينيين والإسرائيليين الذين «يتعايشون» رغماً عنهم على أرض حرب كبرى… وتجاوزت المقاربة السياسية الضيقة، لتضع القضية في رحاب الحياة المشتركة بين الطرفين…
ابتداء بمسرحية الاغتصاب، ستعرف الكتابة المسرحية عند ونوس تحولاً جوهرياً، وسيلتفت إلى المهمل في مسرحه السابق، وستتألق مسرحيات «منمنمات تاريخية (1994) و«طقوس الإشارات والتحولات» (1994) و«يوم من زماننا وأحلام شقية» (1995) وستنتهي بمسرحيته الرائعة «الأيام المخمورة» (1997).

حفلة سمر من أجل 5 حزيران

ومن مسرحية «حفلة سمر من أجل خمسة حزيران» حيث يصبح المسرح فضاء للنقاش السياسي الحاد حول أسباب هزيمة 67 إلى «الأيام المخمورة» التي تلاحق قصة عائلة أصابتها تحولات عميقة تلخص تحولات الشام برمّته في منتصف القرن العشرين. القصة يرويها الحفيد، دون أن يتمكن من معرفة كل تفاصيلها، أمه ليلى، هربت مع عشيقها من جحيم علاقة زوجية فاشلة، وهي الخطوة نفسها التي أقدمت عليها أمها، سناء، فهربت من علاقة جنسية شاذة مع الزوج، واختارت الهروب مع حبيبها، لكي تجد العائلة نفسها في مجرى رياح التحولات الرهيبة، حيث ستحس بالإهانة، وسيصرف كل فرد من أفرادها ذلك على طريقته الخاصة. سينغمس سرحان، ابن سناء، في تجارة التهريب، وبعد مدة سيصبح ثرياً من أثرياء الشام، يشارك أخته تجارة الدعارة بعدما تركا البيت، وسينتهي الأمر بعدنان ابن سناء الثاني، بالانتحار وهكذا….
لم تعد القضايا الكبرى ملهمة لونوس في مسرحه، وبدأ يربط بين التاريخ والقضايا اليومية والفردية، وتلك التفاصيل التي قد لا تثير انتباهنا، ولكنها دالة على تحولات المجتمع العميقة. والخيانة الزوجية التي كانت تفصيلا بورجوازيا مقارنة مع قضايا التسييس والوعي التاريخي أصبحت تحبك حولها البناءات الدرامية لمسرحيات ونوس الأخيرة، والتي شكلت مرحلة نضج كبير في تجربته المسرحية.
الحبكة الدرامية ستكون أكثر إغراء في مسرحية «طقوس الإشارات والتحولات»، فحين سيعتقل الدرك نقيب الأشراف وهو يقصف مع خليلته، وهم يعتقدون انهم يسدون خدمة لعدوه اللدود مفتي الشام، سيحس هذا الأخير بقوة الحدث، وبأن تداعياته ستصيبه هو من بين آخرين، لأن اعتقال نقيب الأشراف إهانة لعمامة الأشراف، ومن ثمة إهانة لكل العمامات. وسيحاول مداراة الفضيحة بتعويض الخليلة في السجن بزوجة نقيب الأشراف، ولكن بثمن تطليقها اللاحق من النقيب. وستنحج الخطة، وسيُتَّهم الدرك بافتعال اعتقال زوج وزوجته… ولكن التحولات كانت قد انطلقت… لقد تحولت «مؤمنة» زوجة نقيب الأشراف إلى غانية، وسمّت نفسها باسم جديد «ألماسة»، وذاع صيتها، وحاول المفتي مواجهتها فاستدعى أباها لردعها عما هي فيه من انحراف:
الشيخ محمد: أهذه هي التربية التي أنشأتك عليها؟.. لا يمكن أن تفعلي هذا الأمر الفظيع إلا إذا كنت مسكونة أو مجنونة؟
ألماسة: نعم أيها الرجل التقي… إني مسكونة. مسكونة بالأشباح التي كانت تختفي في القمة. مسكونة برائحة الشهوة التي كانت تملأ أعطاف البيت. كنت أميز الروائح التي تعرَّفتُها طفلة، والتي أدمنتها بالغة… مسكونة بالهمس المكتوم والفضائح المخنوقة. أتحدثني أيها الرجل التقي عن التربية؟ هل تعرف ما هي النار التي وشمت جسدي، وأنضجته قبل أوانه؟ إنها نار شهوتك التي لا تفتر… نار الحرقة في دموع أمي وصمتها الموجوع… إنها نار عينيك اللتين كانتا تلحقان بي في الدار وبيت الخلاء ومحل النوم والخلوة…».
ومفتي الشام الذي استنجد بالأب لردع ألماسة، والذي سيقول لها: «أنت تقلبين مألوف حياتنا ونظامنا ومستقبلنا… لا أستطيع أن أسمح لك» سينهار أمامها بعد ذلك، خائر القوى، قائلا: «لا أدري إن كان وسواسا أو حمقا أو جنونا، منذ التقيتك وصورتك لا تفارقني، إنك قلق في الفؤاد، واضطراب في الروح. لا أدري ماذا أقول، ولكن أرجو أن تقبلي عرضي».
لترد عليه ألماسة بنزقية: «هو الحب يا مفتينا»…

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى