التراث والتاريخ … عن الحاجة إلى إحياء ما يحيينا

تبقى جدلية العلاقة بين التراث والتاريخ، الواقع الحاضر والمستقبل، قضية مثيرة للكثير من الاجتهاد، لاسيما إذا ارتبطت بمسألة البحث عن الذات القومية، تلك الإشكالية التي استولت على اهتمام شعوب كثيرة إبان معاناتها لما عرف باسم «صدمة الغرب».

وإزاء الشعور بخطر إفناء الذات الذي يمثله الآخر الغازي أو المعتدي، تباينت سبل الشعوب في مواجهتها لهذا الخطر، دفاعاً عن الذات وفق الرؤية الإيجابية لمعنى الذات عند هذا الشعب أو ذاك: ذات دينية أو قبلية أو قومية.

بدا السبب واحداً، وهو الغزو الخارجي مقترناً بأسباب القوة العلمية والتقنية والأطماع الاستعمارية التي تستهدف سحق إرادة وتاريخ أو ذاتية الشعب الفريسة، ولكن تباينت سبل مواجهة هذا التحدي… هذا هو جوهر كتاب المفكر المصري شوقي جلال «التراث والتاريخ»، الذي يحفر في تراثنا وتاريخنا في العالم العربي متابعاً تيار الانسحاب للماضي من ناحية، وتيار العقل والواقع من ناحية أخرى. يؤكد شوقي جلال أن الاتجاه إلى التراث في جوهره عمل سياسي، ومن ثم يضع أيدينا على بؤس الحياة حين يكون التراث خارج الزمن. وبعد تعرية ماضينا، يقودنا شوقي جلال إلى تراث شرقي آخر في مقارنة حية بين عالمين يدور حاضرهما حول: لماذا البحث عن التراث ومحاولة ربط أحداث التاريخ بالماضي كإشكالية عربية أكثر منها أي شيء آخر، لاسيما القضايا المستقبلية؟ وفق المؤلف؛ فإن الباحثين العرب والمسلمين بعامة قد غرقوا في مشكلة البحث عن الذات في التراث، على نحو فردي أو على أيدي جماعات متناثرة بل ومتنافرة، واتصل البحث عقوداً من دون أن يهتدي الباحثون إلى الذات المفقودة في بطون كتب التراث.

هل نفتقد في «حاضرات أيامنا» إطاراً عاماً لما يحب أن تكون رؤيتنا للتراث وصورة مجتمع المستقبل؟

قد يكون ذلك كذلك بالفعل، على أن الأهم هو أن نطرح تساؤلات أساسية جوهرية من عينة… لماذا نبحث عن ذاتنا؟ هل لمجرد أن استهوتنا المشكلة نظرياً؟ ولماذا نبحث عنها في صفحات كتب أكثرها لا يزال في حاجة إلى أن تخضع للبحث والدراسة على هدى منهج علمي؟ والباحثون لا يملكون المنهج ولا الرؤية المستقبلية التي تحدد معايير النظر. يكاد المتصفح للكتاب أن يشتم رائحة تساؤل طرحه الأمير شكيب أرسلان قبل مئة عام: «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم»، إذ يطرح صاحبه علامات استفهام عميقة حول لماذا لا نزال نحن نتعثر على رغم أن أكثر بلدان العالم الثالث عرفت أقدامها أول الطريق وصولاً إلى صيغة للتعامل تجمع بين الحفاظ على ايجابيات التراث ومواجهة تحديات العصر؟ بل من حقنا أن نسأل لماذا اندثرت سريعاً حقبة الازدهار الحضاري العلمي العربي التي نزهو بها في تاريخ العالم الإسلامي وكانت سحابة صيف لم يمتد أثرها؟ أو نسأل لماذا بقى الغزالي واندثر ابن رشد عندنا، بينما أحيت أوروبا فكره مع فجر نهضتها؟ الغزالي مقروء سائغ وماثل في أذهان وسلوك العامة، بينما ابن رشد ومن ذهب مذهبه، وهم في بعض التراث المحجوب، لا يعرفهم غير الخاصة أو قلة نادرة، وكأنهم ذكرى متخفية؟ لماذا وما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟ يقدم شوقي جلال رؤية يمكن أن نطلق عليها صيغة مصالحة تنويرية بين الماضي والحاضر، بين التراث والتحديث، بين الأصالة والمعاصرة، إذ ليست قضيتنا مع التراث هي إحياؤه بإعادة طبع نسخ جديدة من كتب قديمة نقرأها على نحو ما كان يقرأها الأقدمون، وكان لهم إبداع ثقافي لحل مشكلات حياتية واجهت واقعهم، وليست قضيتنا مع الذات هي البحث عن ذاتنا فيه نظرياً، بل أن نتفحص ما كتبه الأقدمون – وهو شديد التباين والتعارض – لنتكشف خصوصيتنا أو هويتنا المتميزة، فإن هذا يجعلنا نحلق في فراغ نظري، وتقضي الأجيال المتعاقبة سنوات عمرها تحرث البحر ولا حصاد، ويفلت الواقع من بين أيديهم، وتضيع الحياة عبثاً مع كتابات ليست لقضايا حياتهم وعصرهم، ولن نقبض غير الريح، فلا نحن اهتدينا إلى خصوصيتنا، ولا نحن بنينا حياتنا.

هل قضيتنا مع التراث هي أن نختار؟ إذا كان الأمر على هذا النحو؛ فأي فرع من التراث وكتبه نختار؛ العلمي أم التجريدي، العملي أم النظري، المتسامح أم المتشدد؟

أنه فارق كبير بين الأمرين حين نقر مبدأ الاختيار، الأول قد يكون منطلقه انحيازياً وولاء بغير علم، ومن دون قضية أو هدف، أو انحيازاً عن وعي ولكن لمصلحة مقنَّعة تخون حركة النهضة، والثاني رهن بهدف مشروع وعلم بواقع معاصر وتحد تفرضه الحياة، ومن ثم فإن لنا قضية تشغلنا ونختار من التراث ما يحفز طاقة المجتمع لهدف مرسوم، ويضمن لنا ثبات الذات واطراد الخطو إلى الأمام.

أفضل صيحة يطلقها المؤلف عبر صفحات كتابه التي تتجاوز الثلاثمئة من القطع الصغير في شأن الدعوة إلى إحياء الذات، هي إننا في حاجة إلى أن نحيي من التراث ما يحيينا، مثلما أننا في حاجة إلى أن نتمثل من العلم الحديث ما يضع أقدامنا على طريق موكب المنتجين المبدعين، ثم نسأل كيف نجدد التراث وعلى أي نحو نقرأه، وهل ما لم يتناوله التراث يعد حجة علينا فلا نقربه؟ الشيء المؤكد الذي يخلص إليه القارئ، هو أننا بالفعل في حاجة إلى أن نعيد قراءة التراث دوماً، أي نقرأه على نحو جديد من منظور معاصر، أن نعيد قراءة التراث والتاريخ، والواقع المتغير مع كل مرحلة حضارية جديدة، إننا مع كل مرحلة حضارية تتغير زاوية الرؤية، وتتضاعف حصيلة المعرفة، ويتغير إطارها، ويتعدل منهج المعالجة والتناول، وتتجدد الظروف والأوضاع ويثار الجديد من المشكلات، وفي ضوء هذا كله تكون القراءة الجديدة المتجددة، لا افتئاتاً على التاريخ، بل متابعة والتزاماً أكثر عمقاً.

يذهب المؤلف إلى الوقوف على ناصية الضد من التراث أي الحداثة، ربما انطلاقاً من القاعدة التي تقول «وبضدها تتمايز الأشياء»، ويحاول أن يبلور رؤية موضوعية لها، فحين نذكر الحداثة أو المعاصرة ينصرف الذهن إلى الغرب بكل سلوكياته وقيمه، وليس آلية العصر كمنهج، بمعنى أدوات تفوّق الغرب – وليس حضارة الغرب بكل قيمها – وهو ما خصَّه تساؤل رواد النهضة العربية: «لماذا تخلّف المسلمون وتقدم غيرهم»، ولهذا ليس غريباً وقد أخطأنا التعبير أن يظل الإطار الذي ننظر من خلاله هو إطار الصراع الأبدي بين التراث والحداثة، ولكن إذا أخذنا الحداثة أو المعاصرة على أنها منهج وأدوات تعامل الإنسان على مستوى العصر مع الواقع الذاتي والمجتمعي والبيئي لا ننفي التناقض النظري والتناقض في حياتنا حيث نلعن الغرب ونستهلك إنتاجه وقيمه.

لكن علامة استفهام مزعجة تثيرها «ذبابة سقراط» من حولنا؛ هل الحداثة هي بالضرورة في أحد أوجهها موقف تحليلي نقدي للتراث الثقافي؟

ينفي المؤلف هذا الطرح جملة وتفصيلاً، فلا يعني التراث عنده أبداً نفياً للقديم أو هدماً له، بل ملاءمة له مع حاجات العصر، التي هي حاجات حيوية للمجتمع ومصلحة البشر، ومن ثم تكون إضافة أو تعديلاً لبنية تقليدية بما يتفق ومشكلات جديدة، وهي بذلك خطوة نقدية إيجابية تستهدف تخفيف حدة توتر ناجم عن أزمة تهدد الدعائم الوجودية لمجال نشاط اجتماعي أو فكري، وتهدد أسس الوجود المجتمعي بعامة، وتطرح الحداثة سبيلاً جديداً للتخلص من هذا التوتر من طريق حل مشكلات تعذّر حسمها وفق سياق أو إطار تقليدي.

أو لنقل إن الحداثة دائماً وأبداً هي ميكانيزم مجتمعي مواكب للنشاط الإنساني التجديدي، ويصحح بها المجتمع ذاته تعديلاً وإضافة ووفاء لهدف أو وفاء للحركة نحو هدف، لأن المشكلات أو الأزمة تمثلت في تعذر الحركة أو الشلل ومن ثم الجمود وما يترتب عليه من تخلف، تخلف عن العصر، وتخلف أو تدهور التراث، أو كلاهما معاً في حالتي المد أو الانحسار.

في الفصل الأول من القسم الثاني من الكتاب والمتصل بالتاريخ يكاد المؤلف أن يصرخ بأعلى صوت لجهة تصدّر التاريخ أولويات الأمة حين تهم بالنهوض عاقدة العزم على الحركة نحو المستقبل، فالمستقبل هو علة التاريخ، بمعنى أن نظرة الإنسان إلى التاريخ وصورة وعيه به، رهن بالسعي نحو بناء مستقبل محدد المعالم تحفّز إليه حاجة عملية.

إن الأمة تفكر لنفسها وبنفسها، أي يكون لها فكرها المستقبلي، ويتوافر لها ركن من أركان الإرادة الجمعية، حين تعي ذاتها التاريخية في استجابة لتحديات مفروضة على هدى مشروع عملي مستقبلي، أو بمعنى آخر، إن تحديث المجتمع رهن بشرطين: وعي عملي عقلاني نقدي بالذات، أي بالتاريخ في وحدته وحركته، واستراتيجية تنمية شاملة. غير أن الوعي العقلاني النقدي يستلزم بداية إسقاط كل التحيّزات السائدة أو أوهام السوق التي تحكم نظريتنا، ونبدأ بالنظر إلى أنفسنا، وإلى التاريخ تأسيساً على منهج علمي في اتساق مع متطلبات النهضة، وحري بنا أن نعترف – في العالم العربي- بأننا لا نملك هذا الوعي بالتاريخ في وحدته وشموله، لأننا لا نملك الانحياز إليه، ولا نوظف المنهج العلمي في البحث وصولاً إليه. هل إسقاط الانحيازات يعني بالضرورة مخاصمة الذات؟ الهدف من إسقاط الانحيازات عند شوقي جلال هو الابتعاد عن الانتقائية، وتأكيد وحدة التاريخ في عراقته المطّردة العميقة الجذور، وفي حركته بين المتناقضات، وبفعلها، وذلك التماساً لوحدة الأنا أو الذاتية القومية، وصولاً إلى حس تاريخي صادق يدعم روح الانتماء. ولن تكون صورة الأنا هنا وعاء نثار من معارف وأحداث متراكمة، بل أنا نسقَيّة فاعلة ومنفعلة، ومتطورة ومتغيرة سلباً وإيجاباً في وحدة جدلية تاريخية. البحث عن التراث أو البحث عن الحقيقة مهمة شاقة، لا سيما إن التاريخ الإسلامي من حيث المنهج لا يزال تاريخ رواية وإسناد، وفي حاجة إلى تحقيق وكشف التعارضات، ونحن لم نخرج بعد من تحت عباءة التقليد أو الاستشراق، فمنهج الإثنين واحد من دون فهم معنى ومقتضيات المعاصرة. لذا بات مشروعاً السؤال: ما حقيقة التاريخ العربي وسط هذا الركام المتناحر من التناقضات؟ ما حقيقة وقائع التاريخ التي نبني في إطارها صورة صحيحة للذات؟ شوقي جلال في نهاية سطور كتابه يؤكد أن حقيقة التاريخ وحقيقة الذات، وتغيير ما بالنفس لا تأتي إذ قنعنا بما رواه السلف، وتقاعسنا عن تطوير مناهج البحث. ولا تأتي إذا صادرنا مسبقاً على كل ما قد تأتي به الاكتشافات الأثرية وما تلقيه من أضواء جديدة على معارفنا المورثة. إذ في ضوء الاكتشافات الأثرية الجديدة والمحظورة في بعض البلدان، وعلى هدى الدراسات المقارنة سنقرأ تاريخنا على نحو جديد بحيث نقف على أرض أكثر صلابة وتلاؤماً مع العصر. إن إعادة كتابة التاريخ والقراءة الجديدة دائماً للتاريخ، شرطان لازمان لأمة عقدت عزمها على النهوض والحركة إلى أمام، ويعرف عنهما من أثر الاحتماء بالماضي أو الاحتواء فيه. وإن الوقوف عند حد الرواية والنص، يعني وقوفنا متحجّرين عند عصر الرواية والنص عاجزين عن مواكبة عصر العقل والعلم.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى