التربية التي تصنع الطغاة

 

أذكر فيما أذكره أنني كنت أتبادل الأحاديث مع أحد معارفي الذين يعرفون بريطانيا جيدا و قد وصل بنا الحديث عن أسباب التخلف الحضاري لدينا ، فإذا به يروي لي مثالا عن أصول تربية الأطفال في بريطانيا وتربيتهم لدى الدول العربية والإسلامية عموما وأن الإختلاف الكبير بين البريطانيين وبين العرب والمسلمين يلعب دورا هاما في عملية التقدم الحضاري ، و على الأخص حين نعرف أن مجلس العموم ، ومجلس اللوردات هناك اتفقا بعد نقاش طويل على إجراء تعديل على قانون كان يجيز للوالدين ضرب أطفالهم حتى الرابعة عشرة عقابا على سوء سلوكهم على أن يتم هذا التعديل بشكل يضمن للطف الحماية اللازمة في حال كان الأب أو الأم إنسانا غضوبا ميالا لاستخدام العنف . وقد نص ذلك التعديل على كيفية الضرب وبالإنكليزية  فلا يضرب الطفل إلا على مؤخرته  Slight حدوده بأن يكون ” خفيفا ” أي ضربات غير شديدة و قد كان مجلس اللوردات ميالا كما يبدو لإلغاء هذا القانون كليا حجته    قد لا تؤدي بدقة إلى إلتزام الوالدين بضبط أعصابهما إذ من الممكن جدا أن يفقد الواحد منهما قدرته على الإلتزام بالضرب الخفيف إذ ما بدأت حفلة الضرب و صعدت الدماء إلى الرؤوس إضافة إلى أن الضرب أصلا بكل أنواعه أسلوب يدل على العنف مما يترك آثارا سيئة في نفسية الطفل كما في نفسية الوالدين فالأفضل إذن كما يقولون في مجلس اللوردات إلغاء هذا القانون من أصله بعد أن أظهرت نتائجه السيئة للعيان . و الطريف في الأمرأيضا – كما فهم صاحبي – أن هناك قانونا آخر يجيز للإبن إذا ما تجاوز الخامسة عشرة و تعرض للضرب من والديه أن يرفع ضدهما شكوى قضائية ، و قد يعاقب الوالدين عندئذ على عملهما بإعتباره تعديا على الآخرين .

و الآن بعد توضيح أسلوب التربية في بريطانيا نجد أنفسنا بحاجة ملحة للنظر في مختلف الأقطار العربية و المسلمة عموما لوضع قوانين مشابهة لما هو موجود في بريطانيا ودول أوربية أخرى و إن لا فأي قانون يحمي صغارنا من المزاج العنيف لبعض الأباء والأمهات في أقطارنا السعيدة !؟! و لماذا في تقاليدنا السائدة يحق للوالدين إستخدام الوسائل التي يرونها مناسبة لتأديب أولادهم بما في ذلك الضرب الشديد ، من دون وجود قانون يحد من طغيان الكبار على الصغار إلا في حالات وقوع أذى جرمي بليغ وعندئذ قد يلام الأب على ذلك لكنه لا يلقى عقابا رادعا مكافئا للاذى الذي سببه لطفله، والغالب في حال إصدار قرار بالعقوبة فإنها تكون ملطفة بتأثير الأسباب المستمدة من نوع التقاليد الإجتماعية السائدة في تلك المنطقة فقط.

كنت أفكر على هذا النحو و أنا أتذكر طفولتي و الضربات الموجعة التي أنزلها بي والدي رحمه الله الذي كان عنيفا ساعة غضبه بقدر ما كان طيبا و محبا كما تذكرت الصرخات المفزعة التي طالما أرعبتني و هي تصلني من بيوت الجيران لأولاد يتوجعون تحت الضربات التي يكيلها لهم أب عنيف أو أم عصبية. كنت أفكر و أتذكر ما جرى عليّ و على إخوتي و جيراني و أهل بلدي ووطني العربي الأكبر وأقول لنفسي ها هم في أوربا كلها تقريبا يضعون القوانين الصارمة لحماية أطفالهم من العقوبات العنيفة حماية لهم من أن يمارسوا العنف في تعاملهم مع الآخرين، وأن تشوه هذه الممارسة شخصياتهم حين يكبرون … كنت أفكر على هذا النحو و أنا أتلمس أطرافي كأنني لا أصدق انني ما أزال على قيد الحياة فما عسى الآخرون من أبنائنا يصنعون حين يصبح الواحد منهم حاكما مستبدا لبلاده و ما عسى خصومه يصنعون لو نجحوا في إزاحته عن كرسي الحكم و جلسوا مكانه ؟! كلي أمل في هذه الأيام أن تتحقق و لو مرة واحدة في السودان أن يتخلى العسكريون الذين صنعوا الإنقلاب على القائد العسكري الطاغية المعروف ” عمر البشير ” أن يتخلوا عن العادات السائدة في العالم العربي حين يتحوّل الأطفال فيه إلى طغاة بسبب التربية السيئة التي يتعرضون لها .. هل تصنع السودان المعجزة التي لم تحصل حتى الأن في أي إنقلاب عسكري و تغدو دولة مسلمة ديمقراطية بحق كما يبدو حتى الأن مثل بريطانيا و غيرها من الدول الأوربية الراقية ؟!…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى